نحن غالباً عندما نتحدث في المجاميع الثقافية أو الفردية نستخدم مفاهيم من وحي الخطاب الحسيني مثل مفهوم الإصلاح حسبما جاء في وصية الحسين بن علي لأخيه محمد ابن الحنفية نذكر منها قوله: " إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي" ، وهذا المفهوم استقر في أدبياتنا حسب التجربة التاريخية لمفهوم الإصلاح وليس لنا أي تصرّف في زحزحة المفاهيم أو اكتسابها معان أخرى، بمعنى أننا ننظر إلى الإصلاح من وجهة تاريخية مترابطة مع مفهوم آخر كالنهضة مثلاً حيث يتم الربط بين هذين المفهومين كأمرين مترابطين معاً تاريخياً، هنا يطرح سؤال مهم : هل الإصلاح كان قبل النهضة أم العكس ؟ وكي لا أطيل عليكم في شرح كلا المفهومين فإن أبسط جواب هو أن الإصلاح يسبق النهضة بمعنى لا توجد هناك حركة نهضوية إذا لم تكن هناك حركة إصلاحية في السياسة أو الاقتصاد أو الفكر أو الثقافة أيّاً كان المجال، المهم أن الإصلاح يسبق النهضة .
سؤال : ولكن من له الحق في طلب الإصلاح؟ لا مراء في أن الإسلام واحد لا يتجزأ فلا يجوز القول أن هناك إسلامات متعددة طالما عرفنا أن الكتاب والسُّنة النبوية الشريفة والأحكام الشرعية منصوص عليها من القرآن الكريم ، مع العلم أن وحدة الإسلام كعقيدة لا يلغي تعدّد الأفهام ولا يسقط حقهم في الاجتهاد ، لا أريد الدخول في مواضيع جدلية بين النص والاجتهاد ما يهمنا هو التركيزعلى الخارطة العامة للإسلام بأي شكلٍ من أشكال انقسامه وتعدّد من يعبّر عنه.
فكل شخص له شخصية اعتبارية مستقلة استقلالاً نوعياً كنوعية الوظيفة المناطة به وعلى خلفية النهوض بأدائها ، فإذاً هناك من يفكّر في النهوض بوظيفته تجاه الإسلام عالمياً، وهناك من يفكّر في النهوض بوظيفته تجاه الإسلام شعبياً، الأول يفكّر ويعمل ضمن تمثلات فكرية قائمة على قاعدة الوعي بقواعد النصوص التشريعية وأحكام العقيدة، وهذا الدور لا يقوم به إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ ، أما من يفكّر في الإسلام الشعبي فهو يؤدي وظيفته ضمن التمثلات العامية لعقيدة الإسلام وتلقين الإنسان العادي أحكام الشريعة، وهذا يقوم به فقيه واحد أو أكثر من فقيه يؤدي وظيفته ضمن التمثلات الآحادية الجانب في أحكام الشريعة
الإسلام لعب أفضل أدواره في توحيد الولاء العقدي المجتمعي ولم ينصرف إلى أداء دور واحد وإهمال أدوار أخرى كالذي حصل في عهد معاوية بن أبي سفيان حيث انصرف إلى تثبيت سلطته السياسية تاركاً خلفه الأداء التوحيدي والديني والاجتماعي وتفرغ لتبرير سلطته وشرعنته بغض النظر عمّا اكتنف تلك الشرعية من الانتهاكات والشبهات في نظر الدين الإسلامي .
فمساحة مبرراته كانت وسيعة في تحقيق أعز أهدافه وهي الهيمنة الأيديولوجية على الدين الإسلامي، فالعالم الإسلامي بعد اغتيال الخليفة الراشد العادل علي بن أبي طالب وقعت الأمة الإسلامية في ظروف صعبة منها : انشقاق أهل الشام عن الحجاز والخلافة الإسلامية ، والتعاون السياسي بين الروم ومعاوية ، مشكلة ثقافة أهل الشام حيث عمل الإعلام الأموي على تشويه صورة علي بن أبي طالب واعتبره مخالفاً للشيخين ويستحق اللعن والبراءة منه ، جنّد معاوية جيشاً بمساعدة الروم لا يعرف سوى العنف ولا يقبل السلم ولا يعرف من هم أهل الحجاز والعراق بل اعتبروهم مخالفين لكتاب الله .
هذه القوة التي وصل إليها معاوية ساعدته فيها عوامل عدة: منها غياب النصوص التي تذم معاوية، الأمر الذي استغله معاوية لدسّ الأحاديث في فضل ومناقب معاوية، بل وأكثر من ذلك جنّد وعاظ السلاطين وفقهاء الأمة وجعلهم يفتون على أحقية خلافة معاوية ، ناهيك عن الاستمرار في سياسة الاغتيالات السياسية لمن يخالفه ، والتلاعب في الصلاة وشرب الخمر جهاراً، وعلاوة على ذلك كله تثبيت ابنه يزيد وليّاً للعهد.
كانت أوضاع الأمة الإسلامية صعبة جداً لذا يمكن القول أنه لا يوجد هناك شيء نخسره، وقد فشلت كل المحاولات الإصلاحية كصلح الحسن بن علي مع معاوية ، ووقوف المعارضين ضدّ حكم بني أمية كالصحابي حجر بن عدي الذي قتله معاوية ، وامتناع أهل المدينة المنورة عن مبايعة يزيد غير أن ذلك لم يؤثر فيه قيد أنملة لأنه كان واثقاً من القوة العسكرية التي تحميه من قبل الروم والقبائل المسيحية من بني كلب .
لو نظرنا إلى القضية الفلسطينية سنجد أن حال الأمة الإسلامية مع العدوّ الصهيوني لا يقل عن حالها زمن حكم معاوية وابنه يزيد، حيث باتت القضية الفلسطينية تراوح مكانها بعد فشل كل مظاهر الصلح والانتفاضات المضادة ، بقيت غزة محاصرة والتوسع الاستيطاني الصهيوني حال دون وجود مأوى للفلسطينيين وهم أصحاب الأرض الشرعيون ، ظل الفلسطينيون في داخل الخط الأخضر يعيشون تحت نظام الفصل العنصري، وتسارعت وتيرة التطبيع والتخلي الجماعي العربي عن القضية الفلسطينية ، فهل بقي أمام كلا الحالتين من الخسائر التي مُنيت بها الأمة الإسلامية والدين الإسلامي من شيء نخاف عليه؟
ولكن النقطة التي ينطلق منها التاريخ ويعتبر شرطاً من شروط النهضة هي لحظة تحول أساسي في حياة الأمة لتغيير أوضاعها والخروج من عقدة الضعف والخوف، هذه اللحظة التاريخية كانت حاسمة عند الحسين بن علي عندما قرر الاستعداد لمعركة كربلاء وقراره هذا لم يكن بسبب أوامر نبوية له بالخروج كي ينال مقامه عند الله في الجنة بالشهادة وهو القائل "خير لي مصرع أنا لا قيه" بمعنى لا توجد هناك مقايضة بين المقام في الجنة وبين الحفاظ على قواعد الإسلام التي أسسها جده (ص) و الظرف التاريخي يحتم المواجهة العسكرية مع الدولة الأموية لكشف المؤامرة العظيمة التي حيكت في القضاء على الدين الإسلام المحمدي الأصيل ، وقد أتت هذه المعركة على نتائج مهمة حيث أفشلت كل مخططات يزيد التي رسمها له معاوية لتنطلق عملية الإصلاح الشاملة في أمة جدّه (ص) فسقطت أحاديث في مناقب معاوية ويزيد ، وسقطت هيبة الدولة الأموية فاندلعت ثورات عليها حتى سقطت الدولة الأموية ، رجع الناس إلى الدين الإسلامي ، ولم تستطع الحكومة الرومانية إنقاذ دولة بني أمية من السقوط رغم مشاركة البيزنطيين الذراع العسكري للروم في معركة كربلاء.
فإذا كان الإسلام الرسمي المتمثل في الحسين بن علي قد لعب دوره المركزي في الإصلاح في أمة جدّه المصطفى (ص) يتناسب وطبيعة ارتباطه العضوي مع الكتاب والنبوة فهو إذاً أحق من يطلب الإصلاح في أمة الإسلام خاصة وأن هذا الإسلام استطاع أن يؤسس إسلاماً حركياً أو حزبياً لينهض بدوره الذي يفوق دور من يريد تسييس الدين الإسلامي ويخضعه وإياه لمطالبه السياسية ويستطيع تعبئة الجماهير ويمارس دوره التوعوي .
خرجت المقاومة الإسلامية من رحم هذا الإسلام الرسمي في مواجهة العدوّ الصهيوني لتأتي اللحظة الحاسمة لعملية طوفان الأقصى وتفشل مخططات العدوّ في القضاء على القضية الفلسطينية ، وتسقط هيبة الجيش الذي لا يقهر، وعاد الأمل إلى نفوس الفلسطينيين وأدركوا أن عودتهم إلى مساكنهم وأرضهم التي طردوا منها حتمي لا محال.
وإذا ما تجاوزنا مرحلة مشروع الحسين بن علي في طلب الإصلاح في أمة جدّه ، فإن النهضة والإصلاح يعيشان معاً الآن وأن الوشيجة بينهما قوية جداً وما يزالان ضمن مشروع أكبر رسم خارطته الحسين بن علي وهو مشروع التقدّم وصيانة كرامة الإنسان ليعيش في أمن وأمان في كل زمان ومكان. الحمد لله رب العالمين