النهضة الحسينية وصراع الحضارات (9)


 دخل الرسول الأعظم (ص) يثرب. ويثرب نسبة إلى يثرب بن قاينة بن مهلائيل سميت بالمدينة حسبما جاءت التسمية في القرآن الكريم  " ومن أهل المدينة مردوا على النفاق " (1). علماء الاجتماع اعتبروا هذه التسمية بداية بناء أسس الدولة المدنية. سؤال : إذا اعتبرنا أن مشروع النبي الخاتم (ص) حين وصوله إلى المدينة هو بناء الدولة المدنية ، ترى هل توفرت لديه (ص) مستلزمات بناء هذه الدولة أم لا ؟  

ركزوا معي على الجواب :- سن أبو سفيان وزعماء قريش قانون المقاطعة ، وتفعيل سياسة الحصار الاقتصادي والاجتماعي لبني هاشم ، وإعمال سياسة التجويع الجماعي لهم ؛ دخل الرسول الأعظم (ص) معهم في مفاوضات من أجل رفع الحصار إلا إنهم رفضوا ذلك  مما أدى إلى الهجرة إلى يثرب وخروج النبي الخاتم (ص) من مكة دون علم قريش مع وجود الرقابة المشددة على الطرق المؤدية إلى مكة. هذه الصعوبات والتحديات السياسية جاءت لصالح الرسالة المحمدية يمكن قرأتها على النحو الآتي :-

أولا : قلق الدولة البيزنطية وخوفها على مصالحها في الحجاز بسبب قانون المقاطعة.  
ثانيا : الضغط الداخلي الذي مارسته قريش بزعامة أبو سفيان لإجهاض الدعوة الإسلامية في وقت كانت قلوب أتباع النبي الخاتم (ص) تنبض بحبهم لهذه الدعوة مما قد يؤدي إلى اندلاع ثورة على قريش وقيام دولة مستقلة في مكة على الحدود مع الدولة البيزنطية وهذا ما لا تريد حدوثه لهذا اتخذت سياسة ضبط النفس على النحو التالي :-

 1- التريث وعدم الدخول في المناوشات مع الرسول (ص) وأتباعه لأنه ليس من صالحها. 2- عدم تلبية رغبة أبو سفيان في ملاحقة المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وقطع الطريق عليهم ، وهذا سيأتي بنتائج عكسية منها :
1- ستنقطع العلاقات التجارية بين المدينة والدولة البيزنطية خاصة وأن المدينة كانت مشهورة بالزراعة وصناعة الأسلحة ، والرسول الأعظم (ص) خبير في فن التجارة فقد مارسها في مكة قرابة أكثر من 20 سنة.  2- أقوى قبائل العرب في المدينة الأوس والخزرج دخلت في حلف استراتيجي تجاري مع الرسول الأعظم (ص). 3- المدينة محاطة بالجبال والصخور فلا يستطيع أي جيش مهاجمتها إلا من اتجاه واحد مما يسهل على النبي الخاتم (ص) هزيمتهم.

 بهذه المعطيات أمن الرسول الأعظم (ص) إنه لن يدخل في حرب مع الدولة البيزنطية وحلفائها من بني أمية في القريب المنظور، فاختياره يثرب للهجرة إليها كان دقيقا ومدروساً في آن واحد.  بهذا المعنى أصبح مفهوم الإسلام ممكن طرحه للناس في المدينة على شكل صيغتين هما :-

 أولا : يمكن الارتباط بالإسلام بحدود الاستطاعة الممكنة والمصلحة المعتبرة. ثانيا : إذا لم تتوفر الاستطاعة ولم تتحقق مصلحة تطبيقه فهو خارج عن دائرة التكليف إلى أن تتحقق القدرة على تطبيقه. إذن بهذه الصيغة التوفيقية في الأحكام وتغييرات الواقع ، يكون النبي الخاتم (ص) قد سجل حضوره في كل عصر، هذه القفزة فتحت باب لقيام الدولة المدنية وظهرت ملامحها كالآتي :

  أولا : قبول التعددية الفكرية  كالذي حصل مع نصارى نجران حيث  قبل منهم (ص) الجزية مع بقائهم على عقيدتهم المسيحية ، قبول الجزية أعطى دلالة واضحة أن التوحيد هو مركز التشريع ،   وأهمية التعددية تكمن في تحقيق التعايش وخلق فضاء التقارب والتداخل بين مختلف الاتجاهات  وبأن المجتمع مكون من روابط سياسية وغير سياسية ، من هنا تشكل مقوم أساسي للدولة المدنية  وهو إخراج الفرد من منظومة تعدد الألهة ومجتمع واحد إلى إله واحد ومجتمع متعدد. 

ثانيا : يجب مراعاة المسافة بين النص وتطبيقه ، فثمة قواعد تحكم فهم النص ، وثمة قواعد تحكم التطبيق وهذا يؤدي إلى إيجاد مجتمع مدني من خلال تطور الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي مثلا جواز أكل طعام أهل الكتاب أو جوازالزواج من أهل الكتاب. ثالثا : وضع سياسة شرعية في الحكم وهو الإنتقال من مبدأ سيادة الوحي والسماء إلى مبدأ سيادة القانون والعقد الاجتماعي في الأرض فالبيعة ستكون جزء من العقد الاجتماعي. 

فانتخاب الحاكم يتم من خلال الشعب ومحاسبة الحاكم تتم من خلال الشعب أيضاً ، هذا الانفتاح على جميع المحاور تعاظمت فيه قوة الرسول الأعظم (ص) في الجزيرة العربية سياسيا حيث دخلت قبائل قوية تحت مظلة الإسلام ، كقبيلة بني شيبان والتي كان أبو سفيان يحسب لقوتها وخبرتها القتالية وعلاقاتها الوطيدة مع الفرس ألف حساب ، وعسكريا اعتناق قبيلة بهراء وأياد والأزد وبني قيس الإسلام وهم المعروفون بشدة بأسهم في القتال.  هذه التحالفات القبلية مهدت لفتح مكة بعد نقض قريش صلح الحديبية هنا اضطرت قريش مهادنة الرسول الأعظم (ص) ودخل بنو أمية في الإسلام ، توسعت الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية وصلت إلى البحرين واليمن وعمان فأصبح نشر رسالة الإسلام إلى العالم متاحاً. 

 هذا الفهم السياسي النبوي لا يمكن أن يلتبس على أحد ، بالنتيجة لن نجد رئيس قبيلة أو أي رمز كبير في المنظومة الاجتماعية  مهما كان كبيراً ، ولا حزباً سياسياً مهما نظّر وفكر، من أن يفكر بالاستيلاء على قمة السلطة بسهولة.  فتم توجيه الناس إلى فهم السياسة من خلال الدين وليس العكس. 
وبفتح مكة انهارت جدران الشرك وسقطت المقاومة السفيانية وطهر بيت الله الحرام من مظاهر الوثنية وأطلق خاتم النبيين (ص) على هذا اليوم اسم يوم المرحمة ، يوم تحمى فيه الحرمه ، فخاطب الذين حاربوه وشردوه وعذبوا أتباعه ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم ، هنا تجسدت رحمة الله الواسعة ، فقال لهم :  إذهبوا فأنتم الطلقاء.

توارى أبو سفيان وبنو أمية خلف هذا الستار وقد أدرك المسلمون الأوائل أن الوجود الأموي سيعمل على تنظيم صفوفه خاصة بعد أن أخبر النبي الخاتم (ص) المسلمين عن الرؤية في المنام أن بنوأمية ينزون على منبره إنزواء القردة ، وهذه الرؤية صادقة تكشف عن الموقف الأموي لمواجهة الفكر المحمدي الأصيل ، فلم يدخل الإيمان في قلوبهم ، بل ظلت تختزن أحقاد الماضي عليه وعلى الطليعة التي  حذت حذو الرسول (ص) وحققت الانتصارات معه (ص) وهو علي بن أبي طالب ، الذي لا  تأخذه في الله لومة لائم ، قد وتر فيهم صناديد العرب وقتل أبطالهم وناوش ذؤبانهم.  والحمدالله رب العالمين.

المصادر 
سورة التوبة ، آية 101


محتويات مشابهة
تابعنا على
الوقت الآن
الخميس 2025/1/9 توقيت مسقط
ابقى على تواصل
تصميم وتطوير