النهضة الحسينية وصراع الحضارات (11)


 بنو أمية يعرفون أن كتابة سيناريو الإطاحة بعنصر أخير من العناصر الإسلامية  ذا وزن ثقيل كعلي بن أبي طالب ليس ككتابة سيناريو الذي أطاحوا به  الخلفاء الراشدين الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان.  فهو يتميز عنهم بمميزات خاصة نذكر بعضاً منها :-

علي ابن عم النبي الخاتم (ص) وزوج ابنته السيدة  فاطمة وهي سيدة نساء العالمين، ولداه الحسن والحسين  سيدا شباب أهل الجنة ، علي باب مدينة علم الرسول الأعظم (ص) ، علي خلفه النبي الخاتم (ص) على المدينة يوم تبوك وجعله أميراً على جيش قوامه 60 ألف مقاتل  في المدينة ولم يحظى أحد من قادة الجيش النبوي على إمرة جيش جرار مثله ، علي بلغ سورة البراءة إلى الناس يوم الحج الأكبر بدلاً من أبي بكر، علي أحد المعنيين في آية المباهلة ، وأحد الأعضاء الخمسة الذين هم تحت الكساء (النبي الخاتم (ص) وابنته فاطمة والحسن والحسين وعلي ابن أبي طالب).

 علي حامل لواء النصر يوم خيبر، علي ألحق الهزيمة بجيش التحالف يوم الخندق ، وحين برز لمقاتلة عمرو بن عبدالود العامري قال فيه النبي الخاتم (ص)" برزالإيمان كله إلى الشرك كله"  علي واجه جيش أبوسفيان يوم أحد حين فر المقاتلين المسلمين من ساحة المعركة ، علي من قال فيه (ص) أنت الوصي من بعدي وعقد له البيعة العامة يوم غدير خم ، علي أفشل المخطط الأموي لتمزيق الصف الإسلامي يوم السقيفة حين قال (لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين) ، علي استمر على تعاونه مع  الخلافة الراشدة قرابة 25 عاما ولم تقع أي مشاكل سياسية  بينه وبين مخالفيه بل كان الناصح الأمين للخلفاء الثلاثة. 

علي قاد جيوش الفتح في عهد الخليفة عمر بن الخطاب حيث أطلق يد علي في إدارة الفتح وإرسال القادة الذين يختارهم هو، يأمر و ينهى وكأنه هو خليفة المسلمين ، شارك أنصار علي في الفتوحات الإسلامية أمثال  خالد بن سعيد بن العاص وأبي ذر وحذيفة بن اليمان وهاشم المرقال ومالك الأشتر وحجر بن عدي وزهير بن القين البجلي وسلمان المحمدي وغيرهم.  شخصية كهذه لا يمكن قتلها بالسم ، ولا يمكن مواجهتها عسكريا فهي خبيرة في ميدان الحرب ، ولا يمكن تزوير أحاديث باسم النبي الخاتم (ص) لصالح بني أمية وتأجيج الرأي العام عليها لأنها أعلم الصحابة ، إذن ما العمل ؟ ركزوا معي على الجواب :-

أدرك معاوية أن الثوار الذين أجهزوا على الخليفة عثمان لا يحق لهم تعين خليفة للمسلمين لأنهم لا يملكون الشرعية في ذلك ، ولا يستطيع هو تحريك أهل الشام لأخذ البيعة له ، لأن الخليفة عمر قال : الخلافة في أهل بدر وأحد ولا تصح  في المؤلفة قلوبهم ولا الطلقاء ، وبنو أمية من الطلقاء.  علاوة على ذلك كل الأحزاب السياسية  كحزب ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري في المدينة دخل في بيعة علي ، الطلقاء الذين كان يقودهم عبدالله بن أبي السرح دخلوا في بيعة علي ، الأمصارالإسلامية  اليمن ، البصرة ، الكوفة ، البحرين ، عمان  دخلت في بيعة علي ، بقي أمام معاوية  التيار العثماني في مكة الذي رأى أن الشام أفضل من المدينة ، وبيعة معاوية أفضل من بيعة علي. 

يذكر التاريخ أنه " لما بويع عليّ بن أبي طالب ، بلغه عن حسان بن ثابت و كعب بن مالك و   النعمان بن بشير، وكانوا عثمانية ، أنهم يقدمون بني أمية على بني هاشم ، ويقولون ملك الشام خير من المدينة " ، وقد حصل جدال بين هؤلاء الثلاثة وبين عليّ ، أسفر في النهاية عن قرار علي بطردهم من المدينة قال لهم " أخرجوا ، فلا تجاوروني في بلدٍ أنا في".فخرجوا من يومهم فساروا حتى أتوا  معاوية ، فقال لهم : لكم الكفاية. فأعطى حسان بن ثابت ألف دينار وكعب بن مالك ألف دينار وولى النعمان بن بشير حمص ، ثم نقله إلى الكوفة بعد" (1) وحسان بن ثابت هو صاحب الرأي في تحريض أهل الشام على الثأر بدم عثمان (2).

فعملية الإنقلاب على الخلافة الإسلامية لم تتكلل بالنجاح بعد مقتل عثمان بل ذهبت إلى علي بن أبي طالب ، فيجب أن تجرى المحاولات من الشام فهم لا يميزون بين ناقة وجمل ولا يعرفون من هوعلي ابن أبي طالب ، فلا بد من وضع جدول الإنقلاب من جديد ، ولكن من سيضع هذا الجدول ؟  لنا قراءة في هذه الأحداث التاريخية والتحليل ما يلي :-

أولا : معاوية يريد الحفاظ على منصبه في رئاسة حكومة الشام.   
ثانيا : هناك أمور لا يمكن التغاضي عنها في الفكر الأموي دون الاتفاق عليها وستكون خارطة طريق ، وهي نشر إشاعة من سمح لعلي بن أبي طالب إيواء قتلة عثمان.
ثالثا : هذه الخارطة ستعرقل عملية ضم الشام إلى الدولة الإسلامية 
رابعا : معاوية سيحاول تبرئة ساحته أنه ليس جزءً من المشكلة مع علي وإنما هو محل ثقة أهل الشام ، والتيار العثماني في مكة هم الذين يطالبون بالثأر لدم عثمان وليس معاوية.
خامسا : هذه الخارطة ستفتح مجال لقيصر الروم في تقديم المساعدة لمعاوية في حربه مع علي لأن من مصلحة قيصر إزالة شبح الخلافة الإسلامية التي باتت تهدد مصالح الروم في الجزيرة العربية.
سادسا : الصراع بين معاوية وعلي في فكر قيصر الروم  لم يعد مجرد حلم ، بل بات مفتاح ربط مع الأقاليم التي كانت يوماً تحت الإدارة البيزنطية الذراع الغربي للإمبراطورية الرومانية في الجزيرة العربية ، وهذا يفسر أموراً كثيرة ، لماذا ابتعد أمراء بني أمية الذين تعاقبوا على الحكم  بعد معاوية في نشر العلوم الإسلامية وسمحوا  للفكر اليوناني وأفكار وثنية أخرى التوغل في المجتمع الإسلامي ؟
سابعاً : الأحزاب السياسية المناصرة لبني أمية  تعلم علم اليقين أن القرار الذي اتخذه معاوية  في نشر الإشاعة إما أن يكون سببا للحرب وهو على استعداد لخوضها أو يمكن تجنب عواقبها الوخيمة التي لا يستطيع أي طرف معرفة نتائجها المسبقة وما ستتركه من تداعيات عليه.
ثامناً : اعتماد معاوية على موقف موحد متطرف لأهل الشام والأحزاب السياسية وتياراتها التي يؤيدها ويدعمها من أجل الإستيلاء على كل مقدرات الدولة الإسلامية خاصة أن اليهود متعطشون للرجوع إلى مناطقهم في المدينة التي طردوا منها والثأر لقتلاهم يوم خيبر. 

اجتمعت كل هذه العوامل و قلبت موازين الحرب بين معاوية و علي في صفين بعد رفع المصاحف على الرماح  في بروبغندا إعلامية واسعة النطاق جعلت من معاوية حملاً وديعاً محب للسلام  بعد أن لاح النصر لعلي بن أبي طالب ، مخاطبا جيش علي من لم يحترم كتاب الله  يتحمل المسؤولية الكاملة  أمام الله يوم القيامة لكل قطرة دم تراق بين المسلمين ، هذه الخدعة عطلت أي قرار نهائي قد يتخذه علي في الاستمرار في الحرب ضد معاوية. و فعلا تعطلت كل المساعي في النهوض للحرب مرة أخرى لمواجهة جيش الشام ، احتكم الفريقان فخلع علي عن الخلافة واثبت معاوية عليها ،

أحست بعض الفصائل من جيش علي أنها وقعت فريسة خدعة أموية  أحيكت في غرف العمليات في الشام ، و لكن هذا الإحساس جاء متأخراً علما أن علي قال لهم لا تغرنكم هذه الخدعة ، حينها طلب منهم أن يجمعوا أمرهم و يستعدوا لحرب معاوية مرة أخرى. أدرك معاوية أن الحرب إذا اندلعت ثانية ستكون نهاية للمشروع الأموي ضد فكر الإسلام المحمدي الأصيل دون أدنى شك.

 خطط معاوية و الأشعث بن قيس مع التيار العثماني في مكة و بتمويل من عمرو بن العاص و اليهود على اغتيال علي بن أبي طالب ، هيئ الأشعث بن قيس في الكوفة جميع المسلتزمات التي سبقت تنفيذ الجريمة على يد عبدالرحمن بن ملجم  و قد شارك في تنفيذ هذا المخطط أربعة  أشخاص:- شبيب بن بجرة الأشجعي و وردان بن مجالد وعبدالرحمن بن ملجم وقطام بنت الشجنة. 

 جاءت ساعة الصفر صرخ ابن الأشعث وهو في مسجد الكوفة " النجاء النجاء فقد فضحك الصبح" (3) ، ضرب عبدالرحمن بن ملجم علياً على قرن رأسه وهو يرفع رأسه من السجود فوقع ذبابة السيف على الجدار ولم يصل  كله على الرأس ولو وصل كله على الرأس مباشرة  لفارق الحياة من ساعته ، هذا دليل على أن ابن ملجم كان يرتعد ويرتحف ساعة تنفيذ الجريمة. أغتيل علي بن أبي طالب في محراب العبادة في مسجد الكوفة  قبل خروجه بأسبوع  لحرب معاوية.

يذكر المؤرخون أن أبو أسود الدؤلي ألقى تبعة مقتل علي بن أبي طالب على بني أمية و ذلك في مقطوعته الشعرية : ألا أبلغ معاوية بن حرب ، فلا قرت عيون الشامتينا ، أفي شهر الصيام فجعتمونا بخير الناس طراً أجمعينا ، تربع معاوية على مسند الخلافة الإسلامية  و نقل عاصمتها إلى الشام لينتهي بذلك مشروع  فكرة الدولة المركزية التي بناها النبي الخاتم (ص).  والحمد الله رب العالمين.

المصادر
1- بن حجر العسقلاني، الإصابة، ج 2، ص 55. 
2- ترجمة كعب بن مالك الأنصاري من كتاب الأغاني جزء 16 ص 233 طبعة مصر.  
3- اغتيال الإمام علي التخطيط والتمويل والتنفيذ ، عبدالهادي الطهمازي ، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة ، الجزء 7.


محتويات مشابهة
تابعنا على
الوقت الآن
الخميس 2025/1/9 توقيت مسقط
ابقى على تواصل
تصميم وتطوير