إن المتتبع لمجريات النهضة الحسينية سيقف على أمور أربعة: الأول الرغبة في الشهادة ، والأمر الثاني إقامة الدولة، والأمر الثالث المحافظة على الأرواح والأنفس، والأمرالرابع تحقيق الأهداف السامية لتبدأ مرحلة التغيير، وهذه الأمور الأربعة تسمى في علم الاجتماع بالنظريات، والنظرية قبل أن تصل إلى مرحلة القواعد والمبادئ في وصف شيء ما أو ظاهرة ما وتفسرها، مثل ظاهرة الشهادة مثلاً فإنها تمرّ بداية بمرحلة التنظير بمعنى لا نستطيع أن نطلق على شيء يستخدمه الناس ضمن قواعد معينة بالنظرية إذا لم تمرّ هذه النظرية ضمن مرحلة التنظير، ولكن ما معنى التنظير ؟
التنظير هو مجموعة الأفكار والآراء تبدأ بالملاحظة وبناء مفاهيم وصياغتها باستخدام الأدوات البلاغية لتصل إلى مرحلة النظرية ثم يتم تفسير هذه النظرية ، إذاً مفهوم التنظير يعدّ مفهوماً أساسياً والذي من خلاله يقدّم تصوراً أولياً لفهم النظرية .هل اتضحت الصورة لكم ؟ أعتقد أنه يجب أن نوضح أكثر ، عندما يحل شهر محرم تبدأ المجالس المنبرية تأخذ مساحة اجتماعية كبيرة في المجتمعات الشيعية في العالم ! فما الذي يطرح على هذه المنابر ؟
وعظ وإرشاد، تاريخ ، عقائد، قيم أخلاقية، فقه. هذه المواضيع جميعها تختلف في طرحها من خطيب إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، مثلاً نأخذ مشهداً تاريخياً للنهضة الحسينية فنذكر مسلم بن عقيل ، يذكر الخطيب أن مسلماً لم يكن يعرف طوعة التي أوته في بيتها والسبب لأن أصحاب مسلم خذلوه فأصبح وحيداً لا يعرف كيف الخروج من الكوفة حتى وقف عند باب امرأة تسمى طوعة ،هذا تاريخ ، ولكن هل المصادر التاريخية المعتبرة تتفق مع هذه الرؤية الخطابية أم لا ؟ الجواب: كلا إذ هذا التنظير الخطابي هو تنظير شخصي لا علاقة له بالتاريخ لأن المصادر التاريخية تقول مثل الدينوري الحنفي في الأخبار الطوال: "إن طوعة أوت مسلماً وفرشت له في بيت غير الذي تسكن فيه" مما يدل على سعة مساحة بيت طوعة والذي يتم استخدامه كمخزن للأسلحة واستراحة الجند وكمخزن للتموين وكمركز لقيادة العمليات العسكرية وأن طوعة كانت تعرف مسلم بن عقيل حق المعرفة. (1)
هذا التنظير الخطابي سبّب مشكلة تاريخية للشيعة الإمامية ، فما هي هذه المشكلة ؟ طالما مسلم بن عقيل لا يعرف سكك الكوفة فلماذا اعتمد عليه الحسين بن علي واعتبره إذاً ثقته؟ أنت اذهب إلى أي قائد جيش في العالم وقل له: هل تبعث أحداً من قادة العسكر إلى أي مكان هو لا يعرف جغرافيته ؟ الجواب: طبعاً لا. إذاً هذه الصورة القاتمة التي تبث عبر المنابر شوهت صورة سيّد الشهداء الحسين بن علي، من هنا خرجت أصوات تعترض على هذه الثقافة التاريخية المزيفة لماذا ؟
لأن المسألة التي تحتاج إلى اختصاص ومداولة، وقصور فكر الخطباء ونظرهم إلى حدّ قرّبهم من عتبة الجهالة، وصار كلامهم أشبه بالدعاية أو رفع الصوت لإثبات اتجاه المذهب عندهم، ولا شكّ أن بعضهم يكون من أهل الفضل لكنّه ليس دارياً بدقائق المسألة ولا أصولها ولا فروعها التخصصية ولا معلوماتها المأخوذة من مصادرها الموثقة .
هذه التنظيرات السطحية بحاجة إلى إيجاد تأسيس قواعد في تصحيح المسار الفكري التاريخي تماماً وخاصة بعدما آلت إليه الأوضاع في طوفان الأقصى، إنها مغامرة مجنونة أدت إلى قتل الأبرياء وإن هذه المقاومة أضرت بالقضية الفلسطينية فبدلاً من أن تكون هذه العملية سنداً للقضية انقلبت عند هؤلاء إلى عدوّة للفلسطينيين .
إذاً هذه الأفكار ستعيق عملية الوصول إلى نظرية المقاومة فما هو الحل بالتالي ؟ من الواضح أن كل الرؤى السابقة وأصحابها اعتقدوا في عملية التنظير أنهم مهتمون بالدرجة الأولى بسياق التبرير وليس بسياق الاكتشاف، ولكي نتخلص من هذه المعوقات في عملية التنظير الجديدة يجب أولاً أن يقدم التنظير ضمن أسلوب علمي رصين بحيث نكتشف الشيء الجديد مثل أن العدوّ الصهيوني يقوم بجرائم ضدّ أناس عزل فيجب البدء بالتنظير من هنا باعتبار أن هذه الجرائم منافية للشرع والقانون، وأن تاريخ بني أمية مليء أيضاً بالجرائم وانتهاك حرمة الأحكام الإسلامية. إذاً التنظير لا يتم إلّا في ضوء صياغة فهم جديد لظاهرة ما تختلف بطبيعة الحال عن النوع الذي تلقيناه وهو نوع بلا معرفة.
ثانياً: إن البيانات أو الأفكار التي وصلت إلينا والتي أصبحت معوقاً آخر يجب إدخالها في البحث لمعرفة أسباب السياق التبريري من وجهة نظر الذين قالوا إن المقاومة الإسلامية مجنونة وإن مسلم بن عقيل لم يكن يعرف جغرافية الكوفة، من أجل تمييز التنظير القادم عن السابق بهدف الوصول إلى اكتشاف شيء جديد وهذا الاكتشاف له ارتباط وثيق مع صاحب القضية، فمقاومة العدوّ الصهيوني مرتبطة بقائد المقاومة ، ووجود مسلم بن عقيل في الكوفة مرتبط بقائد النهضة وهو الحسين ابن علي.
فإذا استطعنا الخروج من هذا الارتباط بمفهوم محوري جاهز نستطيع عندها أن نحدّد الشكل النهائي للتنظير بأن المقاومة الإسلامية تتصدى لجرائم العدوّ الصهيوني على البشرية وليس على الشعب الفلسطيني فقط، كما أن التخطيط السليم لوجود مسلم بن عقيل في الكوفة هو جزء من المخطط الكبير لإنقاذ الإسلام من قبضة بني أمية وكشف زيف حكومتهم التي توشحت بوشاح الدين والتقوى . والحمد لله رب العالمين.
المصادر :-
1.النهضة الحسينية قراءة معاصرة عرض وتحليل ، صادق حسن اللواتي ، ص 167