إن نهضة الحسين بن علي شكّلت منعطفاً مهماً في التاريخ الإسلامي وأعادت تشكيل قاعدة جماهيرية يكون لها تأثير على مجريات الحياة من جهة ، ومكانة في صدارة المشهد الجغرافي السياسي محلياً وإقليمياً من جهة أخرى ، فقد أعطت الخطابات الحسينية قوة دفع كبيرة للمجتمعات الإسلامية التي استشعرت بوجودها السياسي والاجتماعي، والهدف هو تشكيل قوة عابرة للحدود الوطنية تكون مرتبطة بالقيادة الربانية لتحتضن مضامين عقدية وخاصة التعددية الفكرية. من هنا تبدأ رحلتنا في تحليل الخطابات السياسية والاجتماعية والتي تحفّز مفهوم الخطابة عبر الدلالات التي نستطيع من خلالها التحكُّم بالمشهد السياسي والاجتماعي معاً.
الخطاب هو مجموعة مصطلحات ومفاهيم ينظم بعضها البعض الآخر ليعطي انسجاماً مركزياً للخطاب وقوة جذب يستطيع من خلالها التأثير على الجماهير، وهو أشبه بالمسرح الكبير الذي تقف عليه القوى السياسية ولكنه مسرحٌ كبيرٌ جداً أكبر ممّا نتوقعه .هذا المسرح غير ثابت حسب العازفين وتقلبات أمزجتهم وحسب مواقف التغيير، ولكن الوطن والدفاع عن كرامة الإنسان يبقى ثابتاً لا يتغيّر بتغيّر موقعه الجغرافي، فأينما وجد إنسان مظلوم يعيش تحت نير الظلم وقيود الظالم،
هنا يخضع خطاب التغيير لأشكال عديدة من التضييق ومحاولة إسكاته وتهميشه أو صرف جمهوره عنه، مثلاً قبل النهضة الحسينية كان النظام الأموي يحتل مساحة كبيرة من التواصل السياسي وله قنواته الإعلامية وجيشه، فعندما وصل بنو أمية إلى هذه القوة قام معاوية بتثبيت ابنه يزيد وريثاً لعرش ملكه، مع العلم أنه لم يرد في الشرائع السماوية ناهيك عن الشريعة المحمدية ذكرٌ أو نصٌّ لنظام الوراثة على الحكم، هذه العادة كانت عند المناذرة التابعين للفرس في العراق وكذلك عند مملكة الغساسنة التابعين للبيزنطيين في الشام .
لقد أدخل معاوية هذه المظاهرعلى نظام الحكم والتي أضفت بدورها على سلطته نوعاً من الفخامة، وهذا ما أدى إلى تقاسم السلطة بين الروم والدولة الأموية وقبول أهل الشام بنظام ولاية العهد والذي استطاع يزيد بن معاوية استقطاب القبائل واستمالتها إلى جانبه، فهو لم يكن فقط ملاعب للقردة وشارب للخمر، بل كان أكثر من ذلك فهو ابن معاوية الذي استطاع التلاعب بأحكام الدين الإسلامي حيث كان يتطيّب وهو محرم غير مبالٍ بنهي الله ورسوله، وله محدثات في الإسلام وبدع في الدين ومخالفات للشرع، خاصة وأن ولاية العهد ليزيد مخالفة لأحد بنود الصلح التي وقعها معاوية مع الحسن بن علي وهو أن لا يعيّن معاوية أحداً بعد وفاته ، لهذا ما أن استخلف معاوية ابنه يزيد وليّاً للعهد حتى لعنه الناس فلم تلق بعدها بيعة يزيد قبولاً عند المسلمين فتمت بيعته سرّاً، فالمؤرخون لا يذكرون أين تمت بيعة يزيد، فالمهم أنها لم تتم الموافقة عليها بالإجماع وهو ما كان يحرص عليه معاوية، وهذا يعني أن حجم الفساد كان مستشرياً في عهد معاوية هذه حالة واحدة، أما الحالة الثانية فنحن إذا ما رجعنا إلى القضية الفلسطينية خاصة في مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني سنجد أنه لا يوجد هناك إجماع إسلامي على هذا التطبيع فكل مظاهره حيكت في أروقة البيت الأبيض الأمريكي وفي قصر باكنغهام في بريطانيا ، وهكذا يبدو أن حجم المؤامرة في القضاء على القضية الفلسطينية كان كبيراً، وفي كلا الحالتين الهدف منه هو القضاء على الإسلام .
من هنا نفهم أن التطورات التي حدثت على نطاق واسع في الممالك الإسلامية بعد نهضة الحسين بن علي كانت بمثابة إعادة ترتيب جيوسياسي والذي ما زال قائماً، ولعل طوفان الأقصى والوقفات التضامنية لنصرة القضية الفلسطينية في العالم باتت خير دليل على ذلك، فالحسين بن علي أراد توسيع نهضته لتكون عابرة للحدود وإعادة هيكلة المجتمع المدني الإسلامي، لأن صوت الحسين بن علي في نظر المسلمين مهم جداً لأنه أحد أقطاب أهل بيت النبي الخاتم (ص) .المسلمون ما زالوا يتذكرون خطب الحسين بن علي ومدى تأثيرها على الجماهير، لأن الرهان في عملية التغيير كان على إيمان إنسان بسيط والمساهمة فيه بشكل كبير، وفي لحظة فاصلة من التاريخ الإسلامي استطاع صوت الحسين بن علي أن يصل إلى العالم حتى أصبح هذا الإنسان البسيط يصنع خطاب التغيير بنفسه وينتج خطابه ويلقيه في الحافلات وعبر منصات التواصل الاجتماعي والمقاهي وصفحات الجرائد فأنشئت منابر حسينية جديدة .
وعلى هامش هذا الخطاب الذي يشارك في إنشاد خطاب التغيير هناك ضجيج يريد وأد هذا الخطاب التغييري بالتنظير إلى استخدام خطابٍ بديلٍ يعزّز خطاب تضعيف الخطاب التغييري من خلال التركيز على جوانب لا تمت إلى سمات شخصية القائد كالحسين بن علي، على سبيل المثال قولهم : نحن لسنا بحاجة إلى دراسة التاريخ فهذا شيء ثانوي، بل علينا إحياء ذكرى أيام الحسين بالبكاء والنحيب هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك خطاب يريد التقليل من الجهاد ضدّ الكيان الصهيوني كما سمعنا من البعض المحسوبين على مكاتب الإفتاء في العالم الإسلامي " أن طوفان الأقصى كان مجازفة غير محسوبة من قبل حركة حماس". في الأولى تناسوا أن الحسين بن علي قال :"ما خرجت إلّا لطلب الإصلاح في أمة جدي"، فمتى كان البكاء عاملاً مؤثراً في إصلاح المجتمعات؟ ومتى يمكن للبكاء أن يكون كذلك ؟
عندما يكون الإنسان شاهداً على المأساة التي وقعت في وجوده ، فهذا الإنسان البسيط يشاهد ما وقع من الظلم على سبط النبي الخاتم (ص) وهو خير أهل الأرض في زمانه، فإن هذا البكاء قد تحول إلى عقيدة عنده فأنشأ بهذه الدموع سيلاً جارفاً جرف عدوّ الله ورسوله وكشف الأقنعة الفاسدة وهدم حصون الباطل، فأهلاً وسهلاً بهذه الدموع المنهمرة في مصاب الحسين بن علي لأنها استطاعت أن تغرق الظالمين في طوفان الأقصى هذا من جانب.
وأما من جانب من يريد تغيير شيفرة خطاب طوفان الأقصى ليعزّز خطته في خداع الناس من خلال التلاعب باستخدام تقنيات تقوم على مفردات سياسية لإدخال الناس في حالة يأس من عملية طوفان الأقصى خاصة بعد سقوط الهيبة الإسرائيلية ومن يقف في صفها ، خرج فقيه وهو جالس في غرفة مكيفة ليفتي لقائم ، والفقيه القاعد لا يفتي لقائم الذي اقتحم غلاف غزة العز بالسيارة الرباعية الدفع والطائرة الشراعية وسيطر على مواقع عسكرية حساسة وأسر عدداً من الضباط والجنود ودخل في اشتباكات مع العدوّ الصهيوني وكشف خططه وكسر جدار الخوف.
ولو قمنا بالمقاربة التاريخية بين كربلاء وغزة العز لوجدنا أن الخطاب الذي صنعه بنو أمية بأن الحسين بن علي خارجي ووجوده تهديد للنظام الأموي لتدخل السلطة الأموية بذلك في حرب الخطابات الإعلامية مع الحسين بن علي، وعلى خلفية سيناريوهات في المرحلة الانتقالية بين بدء تنصيب يزيد وليّاً للعهد وبين تغطية انتهاكات معاوية لأحكام الشرع استرد صوت الحسين بن علي قوته وأطاح بضربة واحدة الحكومات المزيفة عبر التاريخ .
هذه السيناريوهات هي نفسها التي يطرحها الخطاب المزيف حول طوفان الأقصى بأن بقاء المقاومة الإسلامية هو تهديد لوجود إسرائيل ولمصالح من يقف في صفها ، في حين أن الخطاب الجهادي كان خطاباً توسعياً في مساحات كبيرة ضمن نفوذه في العالم ، وبعد أن استرد قوته أطاح بضربة واحدة المؤامرة التي حيكت في القضاء على القضية الفلسطينية ، هذا دليل أن من يتمسك بالخطاب التغييري الحسيني سيعرف من هم المفسدون في الأرض لأن تاريخهم مدوّنٌ في ذاكرة الأجيال ، والحمد لله رب العالمين.