التاريخ يسجل لنا الحوادث تسجيلا دقيقاً ، ويفسرها لنا تفسيرا صحيحاً ، وعندما نقول الحدث التاريخي فإننا نعني بذلك أن الحوادث التاريخية إنما تحدث في بيئة معينة وزمن معين ، لها صفتها الخاصة ، وشروطها المادية والاقتصادية والاجتماعية ، وفي وسط إطار عقدي له اتجاهاته و نزعاته ، وبين جماعات لها ميولها وطبائعها وأخلاقها ، ويشترك في ذلك الحدث أفراد يلعبون دورهم فيه برغبتهم و ميولهم و طبائعهم ، فالحوادث التاريخية تحدث ضمن عوامل تتداخل فيما بينها ليصبح الحدث التاريخي هو ما هو عليه.
لأقرب لكم المعنى في القرن الماضي كانت هناك هجرات من شبه القارة الهندية لجماعة الخوجة إلى مختلف دول العالم ، الخوجة كانوا على الديانة الهندوسية اعتنقوا الدين الإسلامي على يد الداعية الفاطمي (بير صدر الدين) اسماعيلي المذهب ، وهو من أطلق عليهم مسمى الخوجة ، هذه الجماعات لها ميولها و نفسياتها و طبائعها ، فعندما وطئت أقدامهم خارج شبه القارة الهندية اختلطوا مع القبائل العربية ، هذا الاختلاط لا يعني أنهم أصبحوا كيان واحد مع تلك القبائل العربية من حيث الهوية ،لأن الطبائع و الميول في علم النفس تعتبر من الأزمات التي يعيشها الإنسان ليس أزمة سلوكيات بل أيضا أزمة الرؤية ، لهذا عندما نرجع إلى الحوادث التاريخية بين الخوجة والقبائل العربية التي اختلطوا معها في العالم سنجد هناك حوادث حصلت ووقائع سجلها التاريخ كحمل ثقيل وقع على هذه البيئة أو تلك.
تماما عندما استتب الأمر لبني أمية في الشام وهاجر أمية إلى الحجاز كانت النزعة السلطوية مترسخة في ذهنه و قد ترجم أبو سفيان هذه النزعة وهذه الميول نحو السلطة في سلوكياته المناهضة للدعوة الإسلامية ، علاوة على ذلك ظهرت تيارات فكرية إلى جانب الفكر الإسلام المحمدي الأصيل مثل تيار الدهريين الذين لا يؤمنون بالآخرة وزعيمهم أبو سفيان ، واليهود الذين حرفوا الكلم عن موضعه ، وتيار آخر خارجي يرى نفسه القوة العظمى وله الحق السيادي في إتخاذ التدابير اللازمة لحماية مصالحه في الحجاز، وهو الدولة البيزنطية المسيحية ، هذه التيارات اجتمعت لمواجهة الرسالة المحمدية و لكنهم اجتنبوا المواجهة العسكرية معها في مكة لهذا ضيقوا عليها الخناق لتخرج من مكة فكانت الهجرة إلى يثرب.
هذه الحوادث التاريخية حصلت في مكه لهذا من الأهمية بمكان أن نعرف العوامل التي ساعدت في توجيه هذه الأحداث. ركزوا معي رجاء لأنني عادة لا أتطرق إلى كل التفاصيل التاريخية عندما أكتب في علم الاجتماع التاريخي ولكن هنا و جدت ضرورة لتوضيح بعض العوامل التي مهدت للنهضة الحسينية.
أولا : عامل الجماعات في نظامها وطبائعها ماذا يعني ذلك ؟ الجواب اتفق علماء الاجتماع إن البيئة الاجتماعية لها دور في إطار العلاقات التي تحدد ماهية حياة الإنسان مع غيره و هذه الماهية يحددها عنصرين رئيسيين :-
1- : العنصر المادي وهو كل ما يحصل عليه الإنسان في بناء حياة هادئة وما يصنعه من مسكن وملبس ووسائل نقل وأدوات يستخدمها في حياته اليومية. 2- : العنصر الغير المادي ويشمل عقائد الفرد وعاداته وتقاليده وأفكاره وثقافته. فإذا كان ما يحصل عليه الفرد من مقومات الحياة فعليه الحفاظ على هذه الحياة ، لهذا تجد أن الهنود الذين اعتنقوا الدين الإسلامي و كانوا رعايا للحكومة البريطانية لم يخرجوا عن حياة البيئة التي عاشوها ، ولو رجعنا إلى الوراء قليلا سنجد أن بنو أمية كانوا رعايا للدولة البيزنطية فهل خرجوا عن حياة تلك البيئة عندما هاجروا إلى مكة ؟ الجواب كلا ،و الدليل التاريخي أن هذه الدولة وقفت إلى جانب أبو سفيان في حربه مع الإسلام ونبي الإسلام.
ثانيا : عامل الأفراد الذين شاركوا في الحوادث التاريخية من حيث رغباتهم وطبائعهم ومن حيث مصالحهم. وهذا العامل لا أعتقد أنني بحاجة إلى تسليط الأضواء عليه فهو واضح من خلال حماية الدولة البيزنطية لمصالح بنو أمية خاصة وقد آلت أمور حماية القوافل في رحلة الشتاء والصيف إليهم.
ثالثا : عامل الأفكار و العقائد و الأنظمة التي تسود الأفراد و الجماعات. و عادة هذه الأفكار تكون على شكل نصوص يتبعونها و يلتزمون بتطبيقها ، و الرسالة المحمدية أيضا قامت على نص و واقع النص يعتبره البعض مظهر للمعرفة (1) و ذلك لارتباطه مع مجموعة من الثنائيات المتقابلة مثل : الإيمان مقابل العمل ، العقيدة مقابل الشريعة هذا من جهة ، و في جهة أخرى علاقة النص بالواقع الإنساني فقها وأصولا وتنزيلا.
رابعا : العامل الزمني ، لنوضح هذا العامل مثلا المجتممع الإسلامي بشقيه المكي والمدني هل كان يستوعب نظرية التعين في الحكم بعد خاتم الرسل (ص) أم لا ؟ إذا قلنا نعم كان يستوعب إذن لماذا انقسم المسلمون على أنفسهم في سقيفة بني ساعدة والحال إنهم جميعا بايعوا عليا يوم غدير خم بالخلافة بعد خاتم الرسل (ص) ؟ ، وإذا قلنا لا لم يستوعب إذن لماذ أخذ النبي الخاتم (ص) البيعة لعلي يوم غدير خم ؟ ركزوا معي على الجواب :- الثقافة السياسية التي وضعها النبي الخاتم (ص) في المنظومة الكاملة في المدينة كان لها ارتباط مباشر بمسائل الحكم جاءت على مرحلتين ، مرحلة قبل فتح مكة عام 8 للهجرة ، ومرحلة بعد معركة تبوك عام 9 للهجرة.
في المرحلة الأولى طرح النبي الخاتم (ص) مسألة التوحيد وترك عبادة غير الله عزوجل ، وطرحه (ص) كان ضمن نصوص مقدسة من القرآن الكريم ، وهذا النصوص لعبت دورا مهما في صقل عقلية الفرد المسلم نحو جهة واحدة والاستعانة بقوتها في كل وقت. هذه النظرية كانت بمثابة تحد لقوة أبو سفيان ، لأنه (ص) قفز من جهة النصح إلى جهة فتح نافذة نقاش فكري في علاقة النص التي يعتمد عليه أبو سفيان والنص التي يعتمد عليه خاتم الرسل (ص).
الأول شهد انتكاسه في البنية الفكرية بحيث جعل من الناس عبيدا له فعاش المجتمع المكي مرحلة اللاحسم بين الفكر والواقع للنص ، بينما الثاني شهد تغييراً كبير بين النص والواقع بحيث انتقل النص من النظرية إلى التطبيق فكان نتاج هذا التطبيق تحد صارخ لفكرة عبودية الإنسان للإنسان حيث ساعد في تشكيل شريحة من النخب المثقفة المسلمة التي تحملت سياط التعذيب والتشريد من بيوتهم ، هي نفسها التي حملت رسالة الإسلام إلى الناس مما أجبر المناوئين للرسالة الإسلامية أن يعيدون حساباتهم مع نبي الإسلام ودعوته.
وهذا ما وجدناه في سلوك ملك الحبشة النجاشي الذي وفر الحماية الكاملة للمهاجرين المسلمين إلى بلاد الحبشة والحال تعتبر بلاد الحبشة قاعدة عسكرية للإمبراطورية الرومانية ولا يمكن أن يتخذ أي قرار سياسي دون علمها فيما يتعلق بزعماء قريش خاصة أبو سفيان لأنه سيعكر صفو علاقاتهم ، وبالتالي سيؤثر سلبا على مصالح الروم في الجزيرة العربية ، وهذا ما حصل دخلت قبيلة بني كلب في الشام في مناوشات مع الغساسنة وهم حلفاء الإمبراطورية الرومانية .
لن أسهب كثيرا في هذه الجزئية المهم أبو سفيان أمسك هرقل الروم من يد التي توجعه ، وعليه اتخذ قرار اغتيال النبي الخاتم (ص) ضمن أولويات هذه المعادلة ،لهذا قرر خاتم الرسل (ص) الخروج من مكة إلى يثرب بعد تهيئة البيئة والظروف الملائمة التي ساعدته في الحفاظ على أتباعه و نشرالدعوة الإسلامية والابتعاد عن دائرة الخطر.
وبما أن قريش فرضت رقابة مشددة على كل الطرق المؤدية إلى مكة وبعلمها بعدم وجود القوة اللازمة عند خاتم الرسل (ص) التي تستطيع حمايته ، تدخلت العناية الإلهية في تسهيل مهمة خروجه (ص) من مكة ليلا ، سالكاً الطريق الساحلي المؤدي إلى غار ثور. دخل (ص) المدينة في يوم السابع والعشرين من صفر من السنة الثالثة عشر للبعثة النبوية الشريفة . والحمدالله رب العالمين .
المصادر
1- النص القرآني أمام إشكالية البنية والقرأة ، طيب تزيني ، ص 11 وما تليها