نحن عندما نريد أن نراجع نظرية الكأس المقدسة فإن أول سؤال سيُطرح هو أين هو هذا الكأس؟ هل هو عند البريطانيين أم عند الأمريكان أين هو ؟ المؤلفون ذكروا أن الكأس سُرق من قلعة مونتسيغور(1)، وهذه القلعة تقع على جبال برانس بين حدود فرنسا وإسبانيا وقد اتهمت فرقة الكاثار التي أُبيدت، ومنذ ذلك الوقت لا يعرفون أين هو الكأس ، فماذا صنعوا به ؟ أزاحوا فرقة فرسان الهيكل الذين حكموا القدس قرابة 50 عاماً، وبسبب سرقة الكأس من القلعة فلا يمكن بالتالي الاعتماد عليهم في حراسة ما بقي من الممتلكات المقدسة، بما فيها القدس الشريف، لهذا أُعطيت لهم مهمة الحفاظ على الحجاج وحمايتهم من قطّاع الطرق ليبدأ فصل جديد في تاريخ الدين المسيحي، وليظهر نظام جديد هو "نظام هيكل سليمان" واستخراج كنوز مملكة سليمان، فكان لا بدّ من إنشاء فرق عسكرية لتحرير الأراضي المقدسة في فلسطين من أيدي المسلمين تحت شعار الصليب الذي صُبغ باللون الأحمرعلى خلفية بيضاء وهو شعار الفرنسيين، بعكس الإنكليز الصليبيين الذين يرتدون الصليب الأبيض على خلفية حمراء .
وفي عام 1707م وهو بداية ظهور القوة الخفية الماسونية تم الاتفاق بين فرنسا وبريطانيا على ارتداء الصليب باللون الأحمر على خلفية بيضاء، وهو مطلب بريطاني ليصبح العلم البريطاني الرسمي لها لتبدأ بعدها البعثات التبشيرية الكاثوليكية.وأولى هذه الحملات التبشيرية اتجهت نحو الغرب، والقارة الأمريكية كانت ضمن برنامج هذه الحملات فأنشئت مستعمرات في فرجينيا وفلوريدا وغيرها من المدن الأمريكية، غير أن الإصلاح البروتستانتي الذي تزعمه مارتن لوثر جعل من الكاثوليكية المسيحية تتراجع وعلى إثرها اندلعت معارك طاحنة بين بريطانيا وأمريكا، إلّا أن كفة الميزان العسكري كان في صالح أمريكا، وتكبدت بريطانيا خسائرة فادحة على يد جورج واشنطن ليبدأ الدور الأمريكي كقوة قائمة مهمتها الحفاظ على الدم المقدس واعتبارها الحارسة الأساسية له لتدخل جميع الدول الغربية تحت حماية أمريكية وهو ما يسمى الآن بحلف الناتو، من هنا تم توزيع الأدوار لتصبح بريطانيا وملوكها من النسل الطاهر، وأمريكا المنفذ لتعاليم الكتاب المقدس في حماية الدم المقدس. أما فرنسا وإسبانيا اللتان كانتا المنبع الأساسي للنسل الطاهر فتمت إزاحتهما من النظام الجديد "نظام هيكل سليمان".
بهذه المقدمة فتحنا ملفين معاً: القوة العسكرية والقوة الخفية، وقد اتضح لنا أن الحوار بين هذه القوى فيما بينها كان بلغة المعركة، وكل فريق يستبعد الآخر ليصبح وجود الجميع مهدداً، بحيث أصبحت كل دولة تنظر إلى الأمور من طرف الكأس، الجزء الذي تتعطش أعين قادة الدول الغربية إليه لأنه لا يستند على مرجعية واحدة، فكل التيارات الدينية والسياسية تنتمي إلى أكثر من مرجعية، والحوارات مع هذه المرجعيات ستؤدي بلا أدنى شكّ إلى صراع يدفع بالمجتمعات لتحارب نفسها.
وهذه السياسة التي اتبعتها أمريكا وبريطانيا أدت إلى تفجير قضية المقدس والحرية، حتى بات واضحاً أن البعض يرى في الحروب الصليبية حرباً مقدسة والآخر يرى أنها الحرية في استبعاد من لا يتفق معهم،من هنا كان على البريطانيين والأمريكان إيجاد وكلاء يتحدثون بلغتهم خاصة بعد دحر قواتهم عن البلدان التي استعمروها، فكانت الثقافة التي غرسوها، إما الإيمان بالمقدس أو بالحرية ولكن ماذا يعني ذلك ؟ قبل الإجابة عليه أود القول أننا في بعض الأحيان نرى الأوضاع بصورتها السلبية ونرفضها، بل أيضاً نرى بعض الأوضاع بصورتها الإيجابية ونرفضها، بمعنى أننا كثيراً ما نرفض تطوير الفكرة تجاه الإيجابي فيها، ونميل للهجوم على الفكرة كليّاً، وربما يسمح ذلك بالخوف من الفكرة نفسها ، وإذا أردنا توضيح ذلك ففي كل مجتمع توجد هناك نخب مثقفة، وهذه النخب بل شريحة منها ترى أن الحديث عن وضع سائد أخذ شكل التقديس سيؤدي إلى فرض سلطة على الحرية ، ولكن كيف ؟
لنفترض أن هناك فكرة عند أحد العلماء تتعلق بالفقه ، كأن يقول أحدهم سواء كان بالعمامة أو من دونها إن الفقه الشمولي هو المطلوب في العصر الراهن، وإن الشريعة بشموليتها لم تغط بالمفهوم الفقهي السائد في كل مجالات الحياة . هذه الفكرة هي حتماً فكرة إيجابية ولكنها في نظر هذه الشريحة المثقفة ليست كذلك، لأنها تقف في وجه مشروع فقهي تقليدي والذي بات سائداً في المجتمعات الإسلامية منذ سنوات، فناقشت سياسة الفكرة من دون الفكرة نفسها، وبالتالي سترى هذه الشريحة أن هذه الفكرة خطر على وجودها الاجتماعي فماذا تفعل ؟ الجواب ستقوم بإيجاد حالات من التشويش على هذه الفكرة بشكل أو بآخر كي لا تنتشر فيزول خطرها عليهم .
الغرب أنشأ وكلاء له في العالم على أساس دعم فكرة الدم المقدس ضمن تراثهم الموروث، ولكن نظرة وكلاء الغرب كانت أن الحديث عن التراث والثوابت التاريخية بصيغة التقديس سيؤدي إلى سحق الحريات، وتتحول هذه الجماعات إلى سلطة مفروضة على الجميع، لهذا يجد أغلب وكلاء الغرب أن المقدس خارج سيطرتهم وخارج حدود تأثيرهم، وبالتالي فإن الحديث عن المقدس سيعطي الآخرين سلاحاً في وجه الغرب وطالما هم وكلاء الغرب فسيقدمون هذه الخدمة لهم، هنا نأتي للإجابة على السؤال:
الغرب لكي يبقي المقدس من دون المساس بالحرية حسب الموروث الديني عند شعوب وكلاء الغرب أوجد فكرة تنوير الفكر في كل المجالات الدينية منها والثقافية والسياسية والاجتماعية، بل حتى على مستوى الأحوال الشخصية . الفكرة من حيث المبدأ سليمة مئة بالمئة، ولكن التطبيق يختلف، فمناقشة الفكرة شيء ومناقشة سياسات الأفكار شيء آخر لنوضح المعنى :
في كل دولة هناك سلطة وهناك دولة ، الدولة هي عبارة عن تعبير عن مجتمع منظم، وكلما فقد المجتمع البوصلة دخل في الفوضى وابتعد عن النظام، وعظمت بالتالي الحاجة إلى السلطة، ولو قلنا إن الفقه التقليدي لا يلبي احتياجات العصر فإنه ومع تغيّر الزمن ستكون هناك حاجة ماسة إلى الفقه الشمولي الذي يدير عجلة الحياة ،هذه الفكرة ستبعد الفوضى عن مجتمعاتنا، وبالتالي لسنا بحاجة إلى التشويش على الفكرة لأننا نناقش الفكرة بحدّ ذاتها وليس سياسة الفكرة كما تفعل بعض الشرائح المثقفة في المجتمعات الإسلامية.
الغرب ذهب إلى أبعد من تفكير هذه الشريحة فماذا قال ؟ طالما هناك أفكار لا تتوافق بين أفراد المجتمع الواحد، فيجب عندها أن نقوم بعملية التشكيك في الثوابت، ولكن تحت عنوان التنوير. أنتم انظروا فيما انشغل الناس في الآونة الأخيرة ! لقد انشغلوا في الحديث عن إنشاء مؤسسة اسمها "تكوين الفكر العربي" في مصر حيث يقوم عليها أبرز الأسماء المعروفة في عالم الإعلام المرئي جدلاً بمناقشات المسلمات الفكرية وهي تدعم فكرة الغرب في ضرب الأديان التي لا تتوافق مع فكرة الدم المقدس والكأس المقدسة وهذه الدوائر دائماً تُدار من قبل القوة الخفية .
لهذا وجب التنبيه إلى ضرورة التمييز في المشاريع الفكرية التي تنطلق ضمن مفهوم سياسي، وفي الأخير أود أن أضيف أيضاً أنه يجب أن نميز في سلوكيات الأفراد في المجتمع تجاه أفكار إيجابية كفكر، وهذا يحتاج الى المزيد من المراجعة في التراث الموروث الديني من أجل صون الحقوق الدينية والاجتماعية وأنه لا يحقّ لأحدٍ أيّاً كان أن يصنف الناس وفقاً لمزاجه الخاص. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصادر :
1.الدم المقدس والكأس المقدسة، مجموعة من المؤلفين ، ص 79