لقد رأينا أن محورية الكتاب في الحديث عن المقدس لا تستقيم إلّا في سياق شخصية دينية مقدسة كونها وحدها التي تربط العلاقة بين أفراد المجتمع، وبين النسل من المسيح ليشارك الجميع في الحفاظ على النظام القائم على أسطورة الكأس المقدسة، وهو الرحم الذي حمل النسل الطاهر، وسواء اكتشف لاحقاً أنه لا يوجد هناك كأس مقدس أو لا يوجد هناك دم مقدس حمل في طاسة أو كأس، ولكنه سيبقى ثميناً جداً، المهم أن يكتسب الفرد هوية ذاتية على اعتبار أن الفردانية في الأصل تحيل إلى الانفصال أو العزوف أو الانسحاب أو الاستقلال عن الجماعة، وهي الوضعيات السلوكية التي يمكن أن تشكّل خطراً على المجتمع وأن التهديد الذي يطال المجتمعات الغربية أو غيرها سيصبح على شكل تتفاقم فيه النزعة التقديسية الفردية..
والسلالة الملكية المنحدرة من نسل المسيح هي سلالة مقدسة، وكل فرد فيها يحتل مرتبة وصي المسيح، فهو كالمسيح يمكن أن يحيي الموتى وبالتالي أحيط هذا الفرد بهالة من القداسة لا يمكن مساسها ومن يعمل تحت إمرته هو أيضاً يكسب القداسة من هذه السلالة، فمثلاً لا يمكن النيل من فرسان الهيكل لأنهم حراس النسل الطاهر كما ذهب إليه المؤلفون. (1)في سياق هذه القراءة نحن لم ننفصل عن إيجاد العلاقة التفاعلية بين السلطة الفردية وبين ما هو مقدس، وهذه الشراكة أسست القواعد والتشريعات باسم المقدس، وبالتالي انتقلنا من ظاهرة تاريخية تأخذ الخصائص والسمات الجديدة التي تتناسب مع طبيعة المرحلة التاريخية التي تنتمي إليها هذه السلالة، والتأكيد على البعد التاريخي لمفهوم المقدس مرده حسب الكتاب أن مفهوم المقدس يتغير وهو انعكاس مباشر للخلفية الثقافية والذهنية المشكلة لها وللتوضيح أكثر:
سُئل دان براون صاحب كتاب "شيفرة دافنشي" عن ديانته : "هل أنت مسيحي؟". أجاب مراوغاً: "ربما ليس بالمعنى التقليدي للكلمة.. أنا أعتبر نفسي دارساً لأديان كثيرة، وكلما تعلمت كثيراً كان لدي أسئلة أكثر، وبالنسبة لي فالبحث الروحي سيكون عملاً متقدماً طويل العمر. فمزج الحقيقة والأكاذيب في روايته فقال: إن الكأس المقدسة هو ذاك الكأس الذي شرب فيه المسيح ولا علاقة له برمزية رحم مريم المجدلية، هي الطريقة نفسها التي كتب خزعل الماجدي كتابه "أنبياء سومريون" ليعطي رمزية دينية تاريخية للأنبياء أن الملوك العشرة السومريين الذين تحولوا إلى أنبياء توراتيين من آدم إلى نوح ما هم سوى ملوك سومريين وليسوا أنبياء..
الرمزية الدينية أصبحت بالنسبة لهؤلاء جزءاً من حقيقة ملفقة، وبالتالي يستطيع كل فرد أن يحل مشاكله بطريقة أفضل، ولكن ما هي هذه الطريقة التي ينادون بها ؟ الجواب: أن تحول الحقيقة التاريخية إلى لغز بحيث تختفي هذه الحقيقة لتظهر للناس فيما بعد أسطورة يعيشها الناس لتصبح غداً ظاهرة دينية لا يمكن المساس بها، مثلاً الذي يحمي الدم المقدس هو من سلالة طاهرة أليس كذلك؟ ولو افترضنا أن هناك طائفة لا تؤمن بهذه الأسطورة في بلد ما ماذا سيحدث لها ؟ ستعلن حتماً الحرب عليها وتُباد عن بكرة أبيها تحت شعار الحرب المقدسة ليبقى النسل الملكي الطاهر حتى لو كان هذا النسل كذبة تاريخية ، أنتم ارجعوا إلى تاريخ الانتداب البريطاني أو الأمريكي للشرق الأوسط ألم تنشأ إرساليات للتبشير بالدين المسيحي وعندما فشلوا ماذا فعلوا في هذه البلدان ؟ دخلوا في اتفاقيات تجارية لضمان وجودهم كي يتسنّى لهم نشر أفكارهم وتوجيه ضربة قاضية للمعتقدات التي لا تؤمن بعقيدتهم، ولكن كيف ؟ أسقطوا تلك الشعوب في ثقافة متلقية، وللتوضيح أكثر::
يُحكى أن متسولاً طاف الشوارع وهو ينادي أنه يريد أن يتزوج بنت الملك، لم يهتم به أحد حتى ضاق أحد المارة به ذرعاً فقال له: ماذا تعني أنك تريد أن تتزوج من بنت الملك؟ فقال: أنا موافق وأبي موافق وأمي موافقة فنسبةالـ 50 % الأولى تحققت عندي، أما النسبة الثانية فلا قيمة لها ، بمعنى أننا نتلقى من الغرب من دون أن نعمل الاجتهاد الإبداعي، وهذا هو خطر الإبداع الذي نواجهه الآن، لأن المعلومات التي تأتينا من الغرب تكون مغلفة بأجندة خفية، مثلاً في عام 2023 نشرت الصحف العربية خبراً مفاده سقوط عشرات القتلى في حادث تصادم قطارين في الهند وفي الصفحة نفسها كان هناك خبر عن نجوم بوليوود .. هذا الخبر صنّف ليتلقاه القارئ العربي ضمن أجندة معينة، وهذه الجهة الخفية هي التي لعبت بالإعلام وصنفت الأخبار، فلا توجد هناك مساحة محايدة ليقول الصحفي فيها كلمته وإنما يجب أن يكون مسار الخبر ضمن تلك الثقافة المتلقية ..
من هنا أصبح مهماً أن يكون هناك اجتهاد فردي لتفسير ما يتم بثه من المعلومات أيّاً كانت هذه المعلومات ومن أية جهة كانت، وهذه العملية التفسيرية ستضع حدّاً في تمييع المواضيع وتعزّز الخريطة الإدراكية عند الإنسان لأنه أخطر ما يكون عندما تتزلزل هذه الخريطة الإدراكية بدورها عنده .
الصهاينة خريطتهم الإدراكية أن فلسطين بلا شعب وعندما يأتي أحد ويقول: إن هذه الأرض هي لشعب فلسطين هنا سيصاب هذا الصهيوني بصدمة في خريطته الإدراكية، وللتوضيح أكثر من واقع الحال الذي نعيشه هناك شعوب قررت مقاطعة البضائع الأمريكية والبريطانية وكل من دعم الكيان الصهيوني في حرب غزة وقتل الأبرياء، بينما وجدنا أن هناك من اعتبر المقاطعة غير مجدية، فهو لا يدرك بسلوكه أن الحرب على غزة هو مثال للتطرف وأن شراء شكولاته صناعة بريطانية أو من يساندها يساهم في زيادة التمويل لشراء الأسلحة لإسرائيل وأن هزيمة إسرائيل ممكنة، لأن الإسرائيلي يتألم مثلما نحن نتألم ونحن نرجو من الله ما لا يرجون، إذاً الخريطة الإدراكية عنده هي التي تحدّد سلوكه وليس الواقع الخارجي، لأنه يستجيب للمثير المادي كما يراه هو . فلنسترح قليلاً ثم نعود . والحمد لله رب العالمين.
المصادر
1.الدم المقدس والكأس المقدسة ، مجموعة من المؤلفين ، ص81.