النهضة الحسينية وصراع الحضارات (2)


أين يقف الجنس البشري اليوم وهو يعيش في القرن 21 للميلاد ، ولو بحثنا في تاريخ الحضارات القائمة الآن سنجد أن كل هذه الحضارات لها منطقة منشأ ، على غرار فكرة بلد المنشأ للسلع والمنتجات. بإجماع المؤرخين أن الحضارة ظهرت في فترة تاريخية متقاربة في ثلاثة مراكز في العالم والتي تعتبر من أقدم التجمعات المتحضرة في العالم ظهرت على طول ضفاف ثلاثة نظم نهرية :  دجلة والفرات في بلاد ما بين النهرين ، النيل في مصر ، والسند وروافده شمال غرب شبه الجزيرة الهندية ، ومجموع الحضارات التي استقرأت مبانيها لا تتجاوز 22 حضارة  (1)  . توينبي ذهب إلى أن هذه الحضارات ماتت وبقي منها 5 حضارات ، الحضارة الإسلامية، والحضارة الصينية والحضارة الأوروبية التي هي الآن حاكمة على البشرية ، والحضارة البوذية أو الكونفشوسية ، والحضارة التي هي مرتبطة بالأمريكا الجنوبية ، وأندرو روبسنون يرجع بداية الحضارة الإنسانية على وجه الأرض إلى منطقة رسوبية شمال الصين وهي مركز الحضارت في رأيه وإن ظلت بعيدة عن المراكز الثلاثة المترابطة الأخرى. (2).

نحن عندما نريد التصدي لتفسير أفول حضارة وسقوطها وقيام أخرى فإننا نفترض أن الإنسان هو سبب هذا الأفول ولذلك السقوط عامل إنساني وهو ما يترجم التدهور الداخلي ووقوع الدولة فريسة للغزو الخارجي وهذا يؤدي إلى سقوط الحضارة كما حدث للحضارة السندية عندما غزا الآريين القادمين من شمال الغرب كان السبب الرئيسي وراء سقوطها . المؤرخين وضعوا مظاهر لكل حضارة ، يقول الدكتور خزعل الماجدي المظاهر الحضارية هي  " أولا العناصرالمادية : الجغرافية ، السياسية ، العسكرية ، الاقتصادية ، الاجتماعية ، الطاقة العلمية.  ثانيا العناصر الثقافية : التاريخية ، القانونية ، المدنية ، الأدبية والفكرية ، النفسية ، الدينية والفنية.  هذه أربعة عشرعنصر تضبطها الأخلاق التي توازن كل العناصر" (3) .

بهذه العناصر نصل إلى استنتاج عام أن الأرجح في أفول الحضارة نتج عن اجتماع العوامل البيئية والبشرية ، ولم يكن هذا المرجح مفاجئا بل كان تدريجيا ، واعتقد كتاب الله وضح هذا المرجح في قوله تعالى " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " (4) . ولكن بقاء عامل الأخلاق في أي حضارة فإن الاستدامة لبقائها أمر حتمي وهو الذي يفتح باب النهضة وكشف أسرار تلك الحضارة ، فليس معنى ذلك إن الإنسان له عقل مغرم بالتجريد أو له حس بعلم الفن أو علم النفس أو الاقتصاد بل الذي يستولي عليه هو الرعشة الإنسانية تجاه الآلام   والجوع والفقر والجهل ، فهل من يفكر في هذه المشاكل ومواجهتها في أول وهلة  يكون غير أخلاقي  ؟ بالتأكيد كلا  هنا يأتي دور معرفة الرمز الذي أسس الحضارة وبقيت إلى يومنا هذا.

طبيعي من الواضح أنني لن أستطيع الدخول في كل تفاصيل نهضة الحضارات الخمس الباقية  فلنأخذ مثال الحضارة الإسلامية لأن حديثي عن النهضة الحسينية ولكن سأحاول التطرق إلى بعض الأصول العامة المرتبطة بهذا العنوان الذي بدأت به هذا البحث ، والذي اخترته كإشارة إلى منطق النهضة الحسينية باعتبار أنني أعتقد أنها تعطي أكلها كل حين بإذن ربها ، وهذا العطاء الرباني لا يمكن فهم حقيقته ما لم نفهم الأصول العامة والقواعد التي أسست هذه النهضة . وكما هو متعارف عند المؤرخين أن قيام أي حضارة لا يكون إلا بالكتاب وبدون الكتاب والكتب لا توجد هناك حضارة وبالتالي لا توجد هناك نهضة ، فلو أردنا معرفة حقيقة النهضة الحسينية لا بد من وجود كتابات ودراسات عن النهضة الحسينية وفي الأعم الأغلب فإننا نفتقد هذه الدراسات والكتابات.

 والفاصلة بين ارتحال الرسول الأعظم (ص) و بين النهضة الحسينية قرابة خمسة عقود ، و قعت خلالها أحداث جعلت من الحسين بن علي يخطط لنهضة مستدامة تكون محور بقاء الحضارة الإسلامية ، و قد عرفنا أن النهضة لا تكون إلا إذا كانت لديها أفكار بناء أصيلة تؤمن بها و تبدع في استعمالها و تفرضها على أرض الواقع .
وحيث أنه لا يسعنى إلا أن أؤيد بعض الملاحظات التي وصلتني اعترافا مني بجدارتها لإضافة فصل في معالجة أثر الفكرة الدينية في الدورة الحضارية للنهضة الحسينية ، وسأعتمد في هذا البحث على اعتبارات لمظاهر العناصر التي تحدثنا عنها أنفا من أجل إضفاء الاعتبارات التاريخية التي اقتنعنا العيش معها في هذه النهضة المباركة.

 وأنا أشعر أن القارئ ينتظر وبشغف وصفا تاريخيا يجد فيه المعلومات التي غالبا ما كان يراها أمامه ولكنه لا يعرف كنهها لأن الخطاب الديني الحسيني المعاصر خطاب يعالج الجانب المأساوي فأصبح بناء المجتمع متكدس في هذا الجانب، وتداخلت فيه الجوانب الدينية والاجتماعية وأعطت صورة للنهضة الحسينية في شكل الشهادة فقط وليس في صورة تفسير مقبول لهذه الشهادة. 

ولتلبية هذه الرغبة سنعالج أثر الفكرة الدينية في مركب الحضارة سالكا هذه المرة مسلك التحليل النفسي الذي سيبين لكم بوضوح أكبر جانب من ظاهرة الشهادة ،إذ سيكشف لنا عن التأثير المباشر للفكرة الدينية في الخصائص النفسية للفرد ، وأنا لا أدعي أن هذا المسلك سيعطي للقارئ معرفة خارجية لا تتصل بعالم النفوس وهو عالم العقل التجريدي ، غير أنه يمكنني القول بأن الطريقة التي سأتبعها تحدث عملية تركيب بتأثير الفكرة الدينية وذلك بنظرة مباشرة تختلف عن النظرة التاريخية الغير مباشرة.

فمن الصعب جدا إعادة بناء الدين في أي مجتمع بغياب الكتاب المقدس ، فالبيئة العربية التي احتضنت مبادرة تأسيس نواة للحضارة الإسلامية حيث تم بنأها على معايير الكتاب المقدس "القرآن الكريم" وكانت ولادة جديدة لحضارة جديدة ، ظهرت إلى جانب الحضارات البوذية والكونفشوسية والأوروربية التي ظلت في العصور الوسطى تحت هيمنة رجال الدين أو الكنيسة وكان عامل الزهد هو المسيطر على شؤون الحياة العامة باعتبارهم علماء في الدين وفلاسفة في القانون الروماني ، واحتكروا زعامة المجتمع ، فانتشرت فيهم الخرافات والجهل ولم ينتفع الناس من وسائل الإنتاج ، وعاشت أوروبا متخلفة تئن تحت وطأة سطوة رجال الدين والكنيسة . والحمد الله رب العالمين.

المصادر 
1. مجلة مقاربات فلسفية ، الحضارة والتجربة الدينية عند أرنولد توينبي ، المجلد (8) العدد (1) ، 5-6-2021م ، ص 332-348
2. حضارات السند البائدة ، اندرو روبنسون ، ترجمة الدكتور مصطفى قاسم ، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة  ، مشروع كلمة ، عام 2017 م ، ص 7-8
3. جلسة حوارية حول مناقشة كتابة الحضارة المصرية 
4. سورة الإسراء آية - 16


محتويات مشابهة
تابعنا على
الوقت الآن
الخميس 2025/1/9 توقيت مسقط
ابقى على تواصل
تصميم وتطوير