
كي نفهم هذا البحث من الضروري وضعه في سياق الأفكار التي كانت سائدة قبل ولادة المهدي المنتظر في العقد الخامس من القرن الثاني الهجري . قال جعفر بن محمد الصادق عند ولادة ابنه موسى: " قد ولد لي شبيه موسى بن عمران"، هذه الحقيقة ليست ضد حسابات أحد ينوي لك شيئاً آخر، وليس من ورائها تهديد لإنسان أو لقوم أو طعن لإخافة أحد ، هذا الوصف جاء محسوب الخسائر والأرباح بذكاء وصدق وأمانة، وذلك لأن المطلوب هو أن يتحول الفكر الإسلامي المحمدي الأصيل خطوة إلى الأمام وليس الرجوع إلى الوراء، وهذا من شأنه أن يوسع دائرة العلاقات بين الأفراد والمجتمعات بعضهم بالبعض الآخر، ويزيد من المصداقية بفاعلية القيادة في إحداث التغييرات لصالح الشعوب المستضعفة والمقهورة.
نلتمس من كلام جعفر بن محمد الصادق أن ولادة ابنه هو بداية بناء مشروع خلاص للأمة الإسلامية من الظلم والواقع المؤلم، مثلما كانت ولادة كليم الله موسى بن عمران مشروع خلاص لبني إسرائيل من ظلم فرعون . فبنو أمية وصلوا إلى مسند الخلافة بالحديد والنار، وكذلك بنو العباس مما شكل خطراً على الدين واتباعه فكان باعثاً لمواجهة مفتوحة بين القرآن الكريم ومنهجيته في إدارة شؤون العباد والبلاد، وبين غطرسة التاريخ فكانت نهضة الحسين بن علي ضد حكم بني أمية بمثابة إعادة صياغة جديدة للدين الإسلامي بعد أن كاد يمحى من الوجود تماماً، لذا كان من الضروري إعادتها أمام التحولات على جميع الأصعدة ،وخاصة بعد تدخل النصارى في توجيه سياسة حكومة بني العباس وبني أمية.
جاء موسى بن جعفر ليكمل مسيرة بناء مشروع خلاص الأمة الإسلامية بمقاييس قرآنية خاصة وأن الظروف التي عاشها الناس كانت حالكة مع وجود قواعد تأسيسية للثورة العلمية التي قادها آباؤه من قبله، حيث بدأت المصانع تنتشر في الدولة الإسلامية مثل مصنع الورق والأقمشة وجلود الحيوانات والأسلحة أيضاً. هذه الحداثة الإسلامية كانت قبل قيام الثورة الصناعية في أوروبا حيث وصلت الدولة الإسلامية حينذاك إلى الاكتفاء الذاتي، وكان عصر موسى بن جعفر عصراً ثرياً إلى درجة خاطب هارون الرشيد السحاب قائلاً: " أينما تمطري ففي ملكي"، وانتشرت دور الترجمة حيث كان الناسخون يقومون بنسخ الكتب اليونانية والفارسية والهندية والصينية ومن ثم ترجمتها إلى اللغة العربية.
إلا أن السجلات قد كشفت عن حالات الفساد المالي والإداري، وبداية تسلط الأجنبي، أي الروم والترك على مقدرات الدولة الإسلامية فتحملت الجماهير المستضعفة أثقالاً كبيرة من الفقر والفاقة والتعذيب وآلام الحرب والاعتقالات السياسية الأمر الذي أضعف الحكومة المركزية وجعلها طعماً سائغاً بيد الأعداء.
إن سقوط الخلافة العباسية بيد الأعداء يعتبر النتيجة الحتمية لهذا الفساد ، باعتبار أن هذه التحولات السياسية خلقت مراكز قوى جديدة، وفي يدها مقاليد الأمور في إدارة دفة الخلافة وتوجيه الخليفة حسبما تقتضيه مصلحة هذه القوى الأجنبية ، مما أوجد أرضية خصبة بظهور الحركات الشعبوية العنصرية التي ميزت بين العرب والعجم مثلما هي الآن بين العرق السامي والعرق العربي وغيرها ، وانتعاش اللغة المذهبية والطائفية بمباركة سياسية من الروم والترك واليهود، وترسيخ قاعدة المرجعية الدينية بنسخة رومانية ، وإلغاء مرجعية الإسلام المحمدي الأصيل تماماً كما هو حاصل في الوقت الراهن عبر تحجيم الابتكارات والبحث العلمي وجعل كل الاختراعات بيد أمريكا والغرب.
تجدر الإشارة هنا أن الحالة نفسها كانت قبل سقوط الخلافة العباسية حيث سنّت قوانين هدم الأضرحة، وبداية نشر الفكر التكفيري، وتوسيع نفوذ اليهود برئاسة رأس الجالوت حيث كان البيزنطيون والصليبيون على حدود دولة بني العباس لتكون بداية هيمنة الروم واليهود على العالم ، وظهور حركة إحياء حكم بني أمية على يد عبد الرحمن الداخل في المغرب ليبدأ المشروع السفياني للقضاء على الإسلام ورسول الإسلام الذي بدأ منذ بداية الدعوة المحمدية .
من هنا نرى تداعيات التدخلات الأجنبية المتعاقبة منذ سقوط الخلافة العباسية إلى اليوم هو ترويج رهاب الإسلام (إسلام فوبيا)، بينما ترهب أمريكا العالم عبر خطاب الكراهية ضد المسلمين ليأخذ هذا الخطاب أبعاداً خطيرة جداً تستهدف دور العبادة في الدول الغربية أمام صمت السياسة، وغياب الموقف الحازم في كبح جماح الأحزاب المتطرفة، حيث لا يوجد سياسي يتصدى بوضوح للهجمات ضد الإسلام والمسلمين، حتى بات المسلمون المقيمون في الغرب يعيشون حالة من القلق البالغ إزاء تكرار الهجمات على دور العبادة، فلم يعد المسلم يجد مناصراً له أو حليفاً سياسياً لا في الغرب ولا في الدول الإسلامية، وبدأ الوضع يتفاقم يوماً بعد يوم بسبب غياب القيادة السياسية .
والجدير بالذكر هنا أن هيمنة أمريكا والفكر الغربي حرمت المسلمين من حقوقهم ومزاياهم الثابتة لدرجة أنه تم تهميشهم فكرياً وأخلاقياً ،ولم يقتصرهذا فقط على الغرب، بل سعت الدوائر الأمريكية إلى ملاحقة المسلمين في الهند وشرق آسيا مثل ميانمار حيث يواجه المسلمون التطهير العرقي، وكذلك في مناطق معينة خاصة الروهينجا حيث يتعرضون لاضطهاد كبير وتجريدهم من الجنسية والمناصب الحكومية ، أما في الصين فقد تعرض مسلمو الأويغور في شينجيانغ لاضطهاد واسع النطاق شمل الاحتجاز التعسفي والقيود على الممارسات الدينية والثقافية.
هذه الرؤية القائمة على التميز باعتبار أن منظروها هم ذوو درجة عليا ومن سواهم ذوو درجة دنيا، وهم عاجزون عن إدارة شؤونهم الخاصة، هذا التفكير الإمبريالي أيّاً كان موقعه يتيح للقوى الاستعمارية بأشكالها المختلفة أن تبسط سلطتها السياسية والاقتصادية والعسكرية وتبررها بذرائع شتّى .
إن هذه القوى لم تتمكن من بسط سيطرتها على العالم لولا ترويج فكرة دنو منزلة سائر الشعوب والثقافات المحلية غير الغربية، التي أصبحت مضماراً يصولون ويجولون فيه، حيث تمكنوا في بادئ الأمر عن طريق إشاعة الخلافات الدينية،ثم ترويج الخلافات الفكرية وكذلك القومية بين الشعوب والطرف الآخر، وأيّاً كان هذا الطرف خاصة المسلمين منهم وفق هذه الرؤية فهوغير مؤثر وضعيف، ومن ثم لا يحق له أن يحكم نفسه، بل لا بدّ له أن يبقى تابعاً لمن يتسلط عليه.
ضمن هذه المواجهة التاريخية وفي خضم هذه المعاينة المريرة لمشاهد تحلل الحكومات الإسلامية ، وقيام دويلات صغيرة هنا وهناك قامت على أساس القهر والعصبية ، كان رهان موسى بن جعفر في بناء مشروع خلاص الشعوب عبر وضع حجر الأساس لظهور المخلص الموعود وتميهداً لقيام أقطاب هذا المشروع الذين سيكونون القبضة الحديدية التي ستضرب غطرسة التاريخ والذراع العسكري للمخلص الموعود وهما الخراساني واليماني. والحمد لله رب العالمين.