
أوجدت الثورة الإسلامية في إيران تحولات عالمية على جميع الأصعدة، ولكن قبل هذه الثورة هناك تحولات استراتيجية شهدها العالم منذ حرب أكتوبر -1973م، فلا يمرعام إلا ويكون هناك تحول يتشكل كبداية لتشكل عالم جديد يختلف جذرياً عن الثوابت المتعارف عليها بين القيادات السياسية، حيث تزامنت مع هذه التحولات العالمية الناتجة عن تداعيات أحداث في فلسطين.
وقبل الدخول في غور هذه التحولات وإلقاء نظرة عميقة على تشكيل نظام عالمي جديد بعد الثورة الإسلامية في ايران التي قادها عالم ديني شيعي بارز، لا بدّ من الإشارة إلى أن التعدد المذهبي في الدول الإسلامية كان على المحك خاصة لناحية الخلافات المذهبية التي أصبحت الشغل الشاغل للسياسيين.
هذه العلاقة بين التعددية المذهبية مرتبطة بمدى قبول المجتمعات للتنوع المذهبي كعامل ثراء ثقافي وسياسي، وكيف يمكن أن تؤدي هذه العلاقة بين قطبي المذهبين السُّني والشيعي بعد نشوء الدولة الشيعية على خارطة العالم إلى تعزيز هذا التنوع من خلال التفاعل بين الثقافات والمذاهب المختلفة . هنا يأتي تساؤل مشروع حول ما إذا كانت العلاقة التعددية المذهبية تعزّز التفاعل الثقافي بين المذاهب فهل يمكن ظهور الخصومات بين أصحاب المذاهب أم لا ؟
من الثابت أن جميع المذاهب الإسلامية متجذرة سوية في الإسلام وأن الخصومات لا تنبع من عامة الناس، بل يثيرها المتطرفون من بين أتباع السُّنة والشيعة، وهؤلا وحدهم من يزكون فائرة الخصام ويدفعونها نحو إحداث صدامات عنيفة ومؤلمة لا تنطفئ ، والأكثرية من السُّنة والشيعة لا تقوى على كبح جماح المتطرفين بشكل ناجع ، والسبب أن هذه الخلافات سُيّست إلى درجة بتنا نجد حتى المعتدلين من كلا الفريقين قد تورطوا في سجالات مرّة تجر إلى مواجهات عنيفة لتصبح هذه الفتنة جسراً للاستعمار، والتي ستسمح لهم بإضعاف المجتمع وتجعله عرضة للاستعمار والتدخل الخارجي، حيث ستستغل القوى الخارجية هذه الانقسامات لزرع الفرقة في المجتمع لتستخدم "الفتنة الطائفية" كـ"شماعة" للتدخل في شؤون الدول، وتقسيم المجتمع لصالح جهات خارجية.
وفي هذا السياق كان لا بدّ من البحث عن قوة الاستعمار الذي يستعرض صورته وصورة سائر البشر ضمن خطاب يطغى عليه طابع استعماري بمحورية الغرب وبسط نفوذه بين المجتمعات البشرية ،هذا وقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية الانقسامات الطائفية لتفتيت دول المنطقة وتعزيز نفوذها. هذا التدخل الأمريكي كان كافياً لآية الله الخميني في تحديد الجهة الاستعمارية التي تسعى إلى تفتيت المجتمعات وفرض هيمنتها على مقدرات الشعوب فوصفها بـ " الشيطان الأكبر" للإشارة إلى ما اعتبره عدواً يستخدم أكبر الشرور أو أشدها فساداً في سياقات سياسية وغيرها.
ولو ركزنا نحن على هذه الجزئية سنجد أن الاستغلال السياسي من أبرز ما يؤجج الفتنة الطائفية، لأن السياسي يلجأ عادة إلى ورقة الطائفية حيث يستحضر الجانب الديني بوجه نفعي براجماتي لا على أساس أيديولوجي محض، وهو بهذا الاستغلال الديني يكتسب مزيداً من الشرعية لوضعيته أو تمدده أو نفوذه، وهذه الورقة الطائفية يستخدمها السياسي كورقة لإلهاء الناس وإشغالهم ببعضهم وصرفهم عن مجال الفساد أو حتى التفكير بالأجندات الاستعمارية المرتقبة، وبالتالي يستطيع تفكيك البنية الرئيسية لأي تعدُد فكري بين المذاهب الإسلامية، وإضعاف النخب الفكرية، وتفشي الأمية الثقافية والفكرية مما يجعلهم مسلوبين للخطاب الديني المتطرف، ومن ثم يسلمون لكل من يحرضهم على التعصب.
وهذا سيؤدي بلا أدنى شك إلى انسحاب النخب من تحمّل المسؤولية الذي سيولد فراغاً ثقافياً وفكرياً تسهل تعبئته بالخرافات والتعصب، وعندما يصل الاستعمار إلى هدفه المنشود من ورقة الفتنة الطائفية فلا يكون التفكير عند الناس أن التنوع المذهبي مصدر قوة للإسلام ، هذا الخطر هو أشدّ فتكاً من رصاصة تنطلق من البندقية لتقتل العدوّ في ميدان الحرب ،لأن سريان هذه الفتن يؤدي إلى التنافي بين المكونات الاجتماعية والفكرية والدينية المختلفة .
من هنا يكون الحديث عن طبيعة الاستعمار السلطوية وهيمنته على العالم، إذ يعتبرون أنفسهم يحملون رسالة التحضر والتثقيف في العالم، وهذه الرسالة لم تأت من فراغ ، بل هي جزء من التعاليم الدينية المسيحية والتي هي واحدة من الأسس الفكرية الثابته للاستعمار الغربي ومرآة تعكس الوجه الحقيقي له. قد لا ينتبه البعض إلى خطورة المعركة التي تخوضها أمريكا وأبعادها، فهي حرب فكرية وحرب إبادة جماعية، يقول دونالد رامسفيلد في لقاء مع صحيفة واشنطن تايمز عام 2003 :( نخوض حرب أفكار، مثلما نخوض حرباً عسكرية، ونؤمن إيماناً قوياً بأن أفكارنا لا مثيل لها)، (إن تلك الحرب تستهدف تغيير المدارك، وإن من المحتم الفوز فيها وعدم الاعتماد على القوة العسكرية وحدها) .
أعقب هذا التصريح بناء شبكة إسلامية معتدلة،هذا والذي كشف أبعاد تلك الحرب الفكرية واستراتيجيات الغرب المتبعة في خلخلة الهوية، وتمييع الثوابت لدى العالم الإسلامي ضم معايير الإسلام المعتدل الذي ترتضيه أمريكا فكانت فيه عدة شروط وهي:
القبول بفكرة الديمقراطية وبالمصادرغيرالمذهبية في تشريع القوانين، بالإضافة إلى رفض تطبيق الشريعة، ونبذ الإرهاب والعنف، والدعوة لاستخراج النصوص الشرعية من التراث الإسلامي لدعم هذا الفكر، واحترام حقوق النساء والأقليات الدينية.
والدلائل من واقعنا تدل على تفعيل هذه الشروط بنشر الإسلام المعتدل :
1.قطع الطريق أمام الإسلام الأصولي للوصول إلى سدة الحكم.
2. دعم التيارات الصوفية بهدف إنقاذ الإسلام من المتطرفين حيث اعتبرت حركة فتح الله كولن في تركيا مثالاً حياً للإسلام الصوفي.
3.دعم رموز دينية في إصدار فتاوى خاصة الصوفية منها وتلميع صورهم.
4.الهجوم على مراكز دينية كالحوزات العلمية الشيعية والأزهر في مصر من خلال دعم التيارات والحركات الدينية مثل الحركات المهدوية في العراق ، وعلماء الدين في الأزهر لتخريج إرهابيين يقاتلون في صف أمريكا.
وبهذا ستكون أمريكا الوكيل الشرعي للسلطة العليا وهي سلطة الرب، فتكون الأخيرة قد عبّرت عن نفسها عقائدياً في مواجهة الإسلام الأصولي مروراً من طهران التي تعمل على إيجاد أرضية لاستقبال المخلص الموعود "المهدي المنتظر" إلى بغداد ودمشق، بل وكل بقعة جغرافية تكون مرتكزاً لمعركة كونية يجري فيها توظيف الدين في خدمة الهمينة الأمريكية عبر خطة السلام بالقوة وإنقاذ إسرائيل من الزوال، هذه كانت ضمن تصريحات ترامب الأخيرة أنه جاء بإذن من الرب وأنه يعمل ضمن نصوص إنجيلية لمرحلة ضرورية لعودة المسيح . والحمد لله رب العالمين