واقعا الصدى الذي أخذه هذا البحث لم أتوقعه ، وهو ما تمثل في ذلك الكم الذي لا بأس به من الأسئلة التي وصلتني ، ومن ضمن هذه الأسئلة سؤال للدكتور هاشم من دولة قطر : كيف وصل أوزوريس أو هابيل إلى مصر؟ وهذا سؤال وجيه ، أعتقد كان علي أن أجيب عن الأسئلة التي طرحتها مثال : كيف أصبحت ذرية قابيل أو إسرائيل من سلالة الأنبياء ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال ، دعونا نجيب عن سؤال الدكتور، ركزوا معي في كل كلمة أسطرها وكونوا معي خطوة بخطوة.
قال تعالى في سورة الأعراف آية - 27 " يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّة " اختلف المفسرون حول موقع الجنة التي كان يعيش فيها آدم مع زوجته ، يقول صاحب الميزان نقلا عن تفسير القمي " سئل الصادق عليه السلام عن جنة آدم أمن جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة ؟ فقال عليه السلام : كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا" (1) ثم يضيف صاحب الميزان رأيه بقوله " والمراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد" (2) أما الدكتور محمد شحرور يقول " إن جنة آدم في الأرض" أما الرازي في تفسيره قال " فإن الجنة التي عاش فيها آدم هي في السماء وليست في الأرض".هذه تفاسير علماء المسلمين المختلفة وكما رأينا البعض قال إن الجنة في السماء والبعض الآخر قال هي جنة برزخية والحال القرآن الكريم لم يشخص لنا أين هو موقع جنة آدم ؟
تعالوا معي لنطرق أبواب عديدة لنرى أين هي جنة آدم أفي أرض أم في السماء ؟ بحث مهم جدا ، لنبدأ على بركة الله.
على مر العصور حاول البشر أن يجدوا أرضا لا تكن كسائر الأراضي ، أرض وقعت عليها أحداث غيرت مجرى حركة التاريخ البشري ، ومضت قرون وقرون والبشر ما زال يحاولون العثور على هذه الأرض ، أرض صفاتها : الأسد لا يفترس فيها أحدا ، الشيخ لا يقول فيها أنا شيخ ، العجوز لا تقول فيها أنا عجوز ، أرض كانت سكنا لآدم وزوجته وطردا منها مع إبليس والثعبان كما يعتقدون.
سؤال : هل استطاع بنو البشر أن يعثروا على موقع هذه الجنة ؟ تعالوا معي لنسافر عبر الزمن إلى الماضي حيث بدء الخليقة ، حافظوا على تركيزكم ، خذوا نفسا طويلا ، لأن سفرنا طويل نوع ما.
جنة عدن ، هكذا ذكرت في الكتب السماوية وهي العامل المشترك بين الأديان جميعها ، وعدن هنا ليست محافظة في بلاد اليمن بل هي كلمة في اللغة السومرية " إدِن " تعني السهل المنبسط ، والسومريين هم أول من أطلق عليها هذا الاسم ، وفي اللغة الآرامية " إدن " تعني كثيفة الثمر ، وفي اليهودية " جان إدن " أي جنة السرور، وفي اللغة العربية " عدن " تعني إقامة ، جنة عدن أي جنة الإقامة ، أما في القرآن الكريم ذكرت كلمة " جنات عدن " 11 مرة ، ولم تذكر كلمة " الجنة " مثلا : جنات عدن يدخلونها الرعد - 23 "أولئك لهم جنات عدن" الكهف – 31.
هذه الجنات هي مكان إقامة خلق كثير لهذا جاءت لها مسميات متعددة مثل : (الفردوس ، الخلد ، النعيم ، دار السلام ، عدن) ، ولكن القرآن الكريم لم يربط قصة آدم أو جنة آدم بهذه الجنات ، وإذا رجعنا إلى الحضارة السومرية سنجد هناك أسطورة إنكي ونخرساج الإله الذي خلق الكون والجنة ، والتي عرفت في البابلية والأكادية بقصة الراعي الأكبر" أوريدو " ، إذن قصة وجود الجنة ليست منحصرة في الكتب السماوية بل هناك حضارات قديمة أيضا تحدثت عنها كمكافأة تعطى لمن يطيع الله سبحانه وتعالى ، والجنة في الحضارة السومرية ذكرت " بجنة دلمون " قد يقول قائل منكم ، هل هناك سر حتى نربط السومريين بقصة جنة آدم في البحث ؟ الجواب : نعم هناك سر سأخبركم به ضمن سياق البحث ،
لنتعرف أولا على جنة دلمون ! هي الجنة السومرية التي لا ينعق فيها الغراب ولا يفترس فيها الأسد أحداً ، ولا يعطش فيها أي كائن حي ، فهي مبرأة من كل سوء ، هذه الصفات هي ذاتها صفات الجنة التي وعد الله المتقين وعباده الصالحين بها في كتابه العزيز، وهي مكافأة للمؤمن الذي يكافؤه الرب على طاعته وعمله الصالح والتزامه بتعاليم دينه وتكثر في هذه الجنات النعم والمسرات. ولهذه الجنان أنواع ودرجات فهناك (الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة والفردوس) ، ودلمون هو اسم آخر لمملكة البحرين الآن (3).
ولكن جنة آدم وجدنا فيها الخداع والمكر والوسوسة ومخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى ، وهذه الصفات لا تنطبق على معنى مفردة الجنة المبرأة من كل سوء ، إذن هذه الجنة إستحالة أن تكون في السماء. العهد القديم عند اليهود ذكر جنة آدم بجنة عدن ومنه أخذ المسلمين هذا المعنى ، لهذا فسر البعض أن الجنة هي جنة برزخية لأن فيها الإقامة استنادا على معنى مفردة " عدن". طرقنا باب التفاسير أيضا لم نصل إلى موقع جنة آدم. لنذهب ونطرق أبواب النظريات المختلفة التي تحدثت عن موقع جنة آدم في الأرض ، ونتابع السير.
سفر التكوين يصف جنة عدن كانت مصدر الأنهار الأربعة على " أن مياه عدن كانت مصدر أربعة أنهار مهمة : فيشون الذي يجري في أرض الحويلة ، وجيحون الذي يجري في أرض كوش ، ودجلة الذي يجري شرقي آشور، والفرات ". (4) ، مع ذكر نهري دجلة والفرات أصبح سهل علينا البحث عن مكان الجنة ، لأن نهري دجلة والفرات معروفان وموجودان أيضا.
أما نهر فيشون قال المؤرخ هيرودت أن الإغريقين قالوا هو نهر الجانج في الهند ، لهذا نجد بعض الأخبار نقلت لنا أن آدم هبط في الهند وهذه الرواية لا دلالة علمية عليها (ملاحظة : وجد العلم الجيني الوراثي " دي إن أي" إن سلالة " بنو إسرائيل أو قابيل " بدأت هجراتها نحو الشرق من الهند – سنناقش هذه الجزئية في المرات القادمة إن شاء الله تعالى) ، أما سيحون فهو نهر النيل.
هذه الحدود الجغرافية لجنة آدم خالفتها الحقائق التاريخية سواء الأركيولوجية أو ما ورد في التراث الهندوسي مثلا : جانج هو اسم لإله " كانكا " وهي آلة الطهر التي من أجلها خاض " الإله رام " الحرب ضد الشيطان " راوند " وبمساعدة زوجته " سيتا " استطاع هزيمته في ملحمة جرت على نهر جانج.
طرقنا أبواب النظريات المختلفة بهدف الوصول إلى موقع جنة آدم في الأرض ، أيضا لم نصل إلى موقعها صدقوني إذا توصلنا إلى موقعها ، سنحل الألغاز كلها التي تدور في أذهاننا وهي ستكون محطتنا التالية.
ظهر عالم الآثار الأمريكي " جوريس زارنس " الذي قضى عشر سنوات منقبا عن آثار الحضارات القديمة في شبه الجزيرة العربية ، اكتشف أن هذه المنطقة لم تكن قاحلة بشكل دائم ، وأنها كانت عامرة بالخضرة وبكميات وفيرة من المياه في العصور الغابرة ، وتوصل أيضا إلى أن الأمطار الغزيرة عادت بعد انقطاع إلى منطقة الخليج في الألفية السادسة قبل الميلاد تقريبا ، وغطى اللون الأخضر مساحات شاسعة من القسم الشرقي والشمالي الشرقي للسعودية إضافة إلى جنوب غرب إيران ، وعادت الخصوبة إلى هذه المناطق. دفع هذا الوضع الجديد السكان الذين هاجروا في أوقات سابقة جنوبا إلى العودة إلى المناطق التي انبعثت فيها الحياة مجددا. أرض باتت تنعم بمياه أربعة أنهر يقول " زارينس" إن نهرين منها وهما فيشون وجيحون جفا مع قدوم دورة الجفاف التالية (5).
إن نظرية " جوريس زارنس" تعتبر أكثر النظريات قبولا لملامستها الحقائق التاريخية ، فقد أشار الدكتور جواد علي إلى أن " هومل ذكر أن الفردوس الواردة في التوراة تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب بين (مجان) و (بيت نبسانو) التي هي جزيرة (دلمون) وقد حملت هذه التسمية بعض العلماء إلى التفكير في أن ما ورد عن جنة عدن في التوراة إنما أريد به هذه المنطقة التي تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب وعلى سواحل الخليج " (6).
هنا لنا وقفة تحليلية حول جنة دلمون ركزوا معي رجاء ، آدم عاش في جنة على الأرض ، وهذه الجنة كانت ممتدة من القسم الشرقي من الجزيرة العربية بين مجان وجزيرة دلمون ، و(مجان) اسم أطلقه السومريون على سواحل عمان لريادتها البحرية وشهرة أهلها بركوب السفن ، وبما أن جنة آدم في الأرض ليست مبرأة من كل سوء فإن الحضارة التي اكتشفت في دلمون لا استبعد أن يكون مؤسسها آدم ، أين الدليل ؟
أولا : أن الأمر الإلهي لآدم بالهبوط إلى الأرض ، وكما عرفنا أن الهبوط يعني الانتقال من بلد إلى آخر.
ثانيا : السومريون هم أول من سكن أرض دلمون ، وعمر حضارة دلمون يعود إلى العصر الحجري القديم الأوسط وهي الفترة نفسها التي عاش فيها آدم وأسرته في جنة الأرض. ثالثا : اكتشف علماء الآثار خمسين موقعا عمرانيا ممتدا من الشمال الشرقي لشبه الجزيرة العربية وهي الفترة نفسها التي حددها " جوريس زارنس" أن هذه المنطقة لم تكن قاحلة على نحو دائم .
رابعا : تلقى آدم أبواب العلم كلها وهو في جنة الأرض ، فهل يعقل أن يلقنه رب العزة هذه العلوم وهو في جنة السماء أو في الجنة البرزخية ؟ مؤكد لا لأن جنة السماء أو البرزخية ليست دار تكليف وعمل هذا من الناحية ، من ناحية أخرى أن حضارة دلمون أقدم حضارة في المنطقة العربية ، أقدم من الحضارة المصرية والسومرية ناهيك أن قيام الحضارة المصرية بدأ متزامنا مع قيام الحضارة السومرية في العراق حسب علماء الآثار.
ومنطقيا يمكننا القول إن آدم هو مؤسس هذه الحضارة بسبب التقارب الزمني بين وجود آدم في الجنة على الأرض وقيام حضارة دلمون وإلا ما قيمة تلك العلوم التي حصل عليها آدم ولا نجد لها أثرا على أرض الواقع ، من هنا نفهم أن قيام الحضارة المصرية في مصر والسومرية في العراق كانت بسبب هجرة آدم وبنوه بعد خروجهم من الجنة التي على الأرض إلى أماكن متفرقة ، فمنهم من توجه نحو العراق ومنهم من توجه نحو مصر " كهابيل أو أوزوريس" ، ومنهم من توجه نحو اليمن ، وهذه الهجرات ستكون محطتنا في المرة التالية ، لنكشف أسراراً أخرى خبأتها لنا صفحات التاريخ في طياتها عن " قابيل أو إسرائيل". الحمد لله رب العالمين.
المصادر
1. تفسير الميزان ، السيد الطباطبائي ، جزء 1 ص 138
2. المصدر السابق ، ص 139
3. جنة دلمون
4. سفر التكوين (2: 10-14)
5. جوريس زارنس - قناة أر تي
6. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، جواد علي ، ج1 ص442