كان الكلام فيما مضى عن مفهوم مصطلح الأحوال الشخصية في القانون والفقه . هنا قد يتبادر إلى الأذهان بعض الأسئلة أن سلطة تنفيد الأحكام في الأحوال الشخصية بيد من القانون أم الفقيه ؟ و مدى الاعتداد بحكم مدني في الطلاق الذي تجريه المحاكم وهو ما يسمى بالقضاء الوضعي في إنهاء العلاقة الزوجية هل هي أحكام شرعية أم لا يجب تصديقها من الحاكم الشرعي ؟ وهل الطلاق القانوني يعد طلاقا شرعيا أم لا ؟
هذه الأسئلة تثار بين فينة وأخرى في الأوساط الإسلامية ، وهي لا تخص مذهبا دون مذهب بل في جميع المذاهب الإسلامية يثير أتباعها هذه الأسئلة و يوجهونها لفقهائهم ، مثلا سأل سائل عن عقد قرانه كان في المحكمة وتم فسخ العقد في المحكمة أيضا فهل هذا الفسخ شرعي أم لا ؟
جاء الجواب والذي نشره السيد السيستناني على موقعه الإلكتروني في باب الاستفتاءات – الطلاق: لا يتحقق الطلاق بذلك وإنما يتم إذا طلقتها بحضور شاهدين من الشيعة عادلين ، الولي الفقيه السيد علي الخامنئي في منتخب الأحكام (يتحقق الطلاق إذا تحققت شروطه) ، بينما الفقيه السيد محمد تقي المدرسي في الاستفتاءات الجزء 2 ص 336 لا يرى أن حكم المحكمة في الطلاق كاف شرعا بل يجب إعادة إجراء صيغة الطلاق حسب القواعد الشرعية.
من هنا نفهم أن شروط الطلاق تنوعت عند فقهاء الشيعة ، ومع ذلك اختلف الفقهاء في الصفة الحكمية التي أعطيت في الطلاق ، سواء بالبطلان أو فساد الحكم ، ولكن الأمر بالبطلان يكون عند فقد ركن من أركان الطلاق ، ووجهة انعقاد الركن هو أحد اختيارات القانون ، الذي يلزم توفر جميع أركان العقد، فإذا تخلف ركن واحد بطل العقد ، وبالنتيجة توجد هناك مشتركات في الأصول بمقتضى العرف والشرع بين الفقه والقانون وهذا ما نجده في القواعد الأصولية العامة والكلية في تطبيق القانون في دساتير الدول الإسلامية
مثلا المادة -2 من النظام الأساسي للدولة في سلطنة عمان الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 6 2021 : دين الدولة الإسلام والشريعة الإسلامية هي أساس التشريع ، ما معنى ذلك ؟ المعنى أن القانون مأخوذ من أحكام الشريعة الإسلامية على جميع المعاملات والمسائل التي تتناولها نصوصه لفظا ومعنى فإذا لم يوجد نص في القانون فيمكن الرجوع إلى مبادئ الشريعة الإسلامية
وهذا يدل أن القانون يأخذ ألوانا مختلفة في القرب والبعد من الأحكام الشرعية ، إلا أنه يلبي احتياجات اجتماعية ، وذلك يعود بالنفع على الفرد والمجتمع معا ، كما رأينا لا توجد قواعد إجرائية في معالجة حالة الطلاق في الكتب و الرسائل العملية للفقهاء ، بينما القانون وضع قواعده الإجرائية لمعالجة قضايا الطلاق ، والحال الإلتزام بقواعد الإجراءات الصحيحة هي مسؤولية العقلاء المصلحين في المجتمع أليس كذلك .
إذن وجود الأنظمة والقوانين هي من أجل تلافي الثغرات وتصحيح المسار الخاطئ وتقويم المعوج حتى يستقيم ، فهناك من يحترم النظام خوفا من العقوبة ومنهم من يتجرأ ويخالف النظام ، وهذا يكشف لنا عن عدم الوعي ويتم الاعتراض على حكم القانون ، الاعتراض لا يعني مخالفة النظام ، و عدم الثقة في الجهة القضائية التي أصدرت حكما لا يعني أن يكون مبررا للمخالفة ، بل يجب أن يكون دافعا في العمل على تصحيح ما هو صحيح وبطرق علمية وأساليب مشروعة إلى أن يتحقق المطلوب
سئل الفقيه السيد محمد سعيد الحكيم هل يجوز مخالفة القانون مطلقا ؟ أم الحرمة خاصة بالقانون المنفذ من قبل الحاكم الشرعي ؟ الجواب ينبغي الإلتزام بالقوانين مطلقا ما دامت ذات مصلحة عامة للنظام المدني ، ولا تتنافى مع الأحكام الشرعية . (موقع السيد محمد سيعد الحكيم – الإلكتروني - باب الإستفتاءات)
الأن بعد أن عرفنا علاقة القانون بالفقه ، تعالوا معي لننظر إلى مظاهر هذه العلاقة على مستوى الأسرة الذكر والأنثى . إذا يتذكر القارئ الكريم قلت أن الفقيه بنى الأحكام الفقهية وفسر النص المقدس للأسرة على أساس تكويني وليس على أساس الواقع الاجتماعي ، وضربنا أمثلة عديدة في بيان ذلك .
السؤال هل القانون يأخذ بالنص حسبما فسره الفقيه على أساس تكويني أم لا ؟ ركزوا معي رجاء على الجواب :- جاء في (وسائل الشيعة للحر العاملي جزء 20 ص 157 (عن أبي عبد الله (عليه السلام)) قال: إن الله كتب على الرجال الجهاد وعلى النساء الجهاد ، فجهاد الرجل أن يبذل ماله ودمه حتى يقتل في سبيل الله ، وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته ، وقال (ع) غيرة المرأة كفر وغيرة الرجل إيمان أقول: ما يدل عليه باب وجوب تمكين المرأة زوجها من نفسها على كل حال وجملة من حقوقه عليها)ز
ماذا ينتج هذا المنطق ؟ أن المراة من أجل الحفاظ على الكيان الأسري تخاف على زوجها و تراعي مشاعره وعواطفه وأحاسيسه هذه المراعاة كفر ، والكافر من أهل النار لأنها شيطانة والشيطان أين مصيره ؟ النار، أما الرجل لا يبالي بمشاعرها ولا عواطفها ولا أحاسيسها ويحق له أن يغيب عن البيت مدة طويلة ويستطيع أن يتزوج عليها ، وعليها الصبر ، لأنه من أهل الجنة و من أهل الإيمان .
هذه صورة منظومة كاملة تشريعية وتكوينية وفقهية ، أخبروني بهذا المنطق المرأة هل ستقبل شهادتها في الطلاق أم لا ؟ واقعا إذا نظرنا إلى المنظومة الفكرية الفقهية نجد أنها أفرزت لنا وبشكل مباشر وغير مباشر البنية العقلية النفسية للأمة و صاغتها بألوان الطيف السبعة ، وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى ما يقدمه الفقه من أطروحات حول سلطة الفقيه وإشكالية هذه السلطة بناء على المعطيات المتقدمة .
الآن أنتم ماذا تجدون عندما تذهبون إلى قوانين البلدان الإسلامية في الطلاق ، القانون الإيراني وضع أكثر من 20 شرطا في الطلاق ، نزع الطلاق من يد الزوج وجعلها بيد محكمة الأسرة ، هذه الشروط لن تجدها في الكتب الفقهية ، سلطنة عمان عدلت قانون الطلاق ، يقع الطلاق بتصريح الزوج أمام القاضي ، ويثبت الطلاق خارج المحكمة بالإقرار وبالبينة بمعنى لا يثبت الطلاق خارج المحكمة إلا بحكم المحكمة .
هنا يأتي هذا السؤال المحير ما هي أسباب الاختلاف في فهم النص بين الفقه والقانون ؟ واقعا إن أسباب هذا الإختلاف يعود إلى تقيد الفقه بالمنهج الأخباري وحذف العقل من دائرة الاجتهاد ، واعتماد الخبر الواحد ، في حين أن علماء الشيعة في سابق الزمن لم يعتمدو على خبر الآحاد كما جاء في رسائل السيد المرتضى ج1 ص 23 ( إننا نعلم علما ضروريا لا يدخل في مثله ريب ولا شك أن علماء الشيعة يذهبون إلى أن أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشريعة ولا التعويل عليها).
غير أن زعيم الحوزة العلمية الشيخ الطوسى في كتاب عدة الأصول ج1 ص 100 قال ( إن العمل بخبر الواحد في أصول العقائد ينسب إلى بعض الغافلين والجهلاء ولكن بنسبة إلى الأحكام الفقهية فهذه الأخبار حجة مطلقا) وقد نسي الشيخ أن الشريعة المحمدية تستند في أصولها على منطوق الوحي ولا يصح الاستناد إلى خبر الواحد في الفقه واسنادها إلى الله عزوجل
وبما أن التكليف باق إلى يوم القيامة وأن باب العلم مغلق إذن يجب الأخذ بالخبر الواحد من هنا جاء عدم قبول شهادة المرأة و إعطاء صك الطلاق بيد الرجل لأن الكثير من المجتهدين لا يفرقون بين القياس المفيد للظن وخبر الواحد المفيد للظن أيضا كأن نقول وجعلكم لتسكنوا إليها قال بعضهم المقصود به الرجل لأن المرأة خلقت من أجله
وللحديث تتمة في الحلقة (7) إن شاء الله تعالى ..... إلى اللقاء