العولمة كلمة أعتبرها البعض أنها تعني أمريكا وإنه يراد منها أمركة الأنظمة ، لأن التي تحدثت عنها هي أمريكا ، فأمريكا لها ثقافتها وتريد أن تنقلها إلى العالم، وتفرضه على الشعوب بقوة القانون ، هذا هو مفهوم العولمة في أذهان الناس . فلو سألت أي فرد في المجتمع ما هي ثقافتك ؟ سيقول لك إذا كان مسلما ثقافتي إسلامية، وإذا كان غير مسلم سيقول ثقافتي ليبراليه أو علمانية أو دينية .
وإذا سالت هذا أو ذاك هل يعرف الآخرون ثقافتك أم لا ؟ أبسط جواب ، أحاول تعريف الناس بثقافتي الإسلامية . إذن هناك جانبان في هذا الإنسان ، جانب استهلاكي أي جانب ما يحمل من ثقافة يمارسها ويطبقها على ذاته ، وجانب يستخدم وسائل لنشر الثقافة إلى الغير ، وهذا النشر يكون عبر وسائل تقنية حديثة أو وسائل الإتصالات الحديثة كالإنترنت أو شبكة التواصل الاجتماعي المتعددة .
هنا يرد علينا هذا السؤال ، هل هذا النشر بالضرورة أن يكون أمريكيا بمعنى إذا كان الفرد المسلم الشيعي يريد نشر مذهبه إلى الناس هل بالضرورة أمريكا تريد منه ذلك ؟ الجواب كلا . لماذا ؟ لأنه توظيف العولمة كمفهوم بدون النظر إلى أصالة الإنسان يؤدي بنا إلى خلط مع مفهوم العالمية ، وهذا الخلط يؤدي إلى فقدان الهوية الذاتية بالشعور أو بدون الشعور .
سأقرب لكم المعنى ،تصور أنك خالطت أغاخانيين الشيعة الذين هاجروا من الهند أو من أي بلد آخر ،الأغاخاني مذهبه إسماعيلي ويسمون بالخوجة والشيعي الذي يتعامل معه مذهبه إثنا عشري ، والبيئة التي ينتميان إليها مذهبها الشافعي . سؤال : تحت أي مفهوم سينشر هذا أو ذاك مذهبه في بيئة ليست بيئته ؟
إذا قلت عليهما الإندماج مع مجتمع آخر لأنه غيرهم ينظر إليهم أنهم غرباء ، ماذا سيكون تأثير هذا الكلام عليهما ؟ الجواب : فقدان الهوية الأصيلة مباشرة دون سابق إنذار، لأن الطرف المقابل يتحرك من خلال مشاريعه ، أما أنت لا تملك هذه المشاريع ، فأنت بنسبة له موظف غير مدفوع الأجر ، أما إذا قلت لا هو يتحرك في البيئة بمشاريعه وأنا سأتحرك بمشاريعي فأنت انتقلت من الموظف بدون الأجر إلى منافس شريك في المجتمع .
وهذا هو مفهوم العولمة الثقافية أن تكون عندك مشاريع تخصك أنت لا أن تندمج مع مشاريع صرف غيرك أمواله عليها ، قد يقول قائل هناك مجتمعات تأخذ من الأفراد مبالغ شهرية أو سنوية لتطوير الخدمات تعود بالنفع على أفرادها . العولمة الثقافية ستقول لك إذا كنت تدفع هذه الأموال لصندوق تستفيد منها أنت في أي ظرف كان فلا بأس ، وإلا فأنت موظف غير مدفوع الأجر فلماذا تعطيهم أموالك ؟ .
إذن العولمة تقول لك طبق نظرية المنافسة الشريفة ، استقل وأستثمر أموالك على مشاريع تعود بالنفع عليك ، حينها أنت منافس للغير ، و ستجعل الآخرين يطلبون منك خدماتك مثلا ، هو عنده مستشفي أنت أيضا عندك مستشفى هو عنده معهد تدريب أنت أيضا عندك معهد تدريب هو عنده معهد لتحفيظ القرأن أنت أيضا عندك معهد للتحفيظ القرا ن، هو عنده مختبرات صحية أنت أيضا عندك مختبرات صحية ، هو وضع جائزة للمتوفقين ا نت أيضا وضعت جوائز للمتفوقين ، بعبارة أخرى خطاب الإندماج مع مجتمع آخر بعيد عن التنافس الشريف ، خطاب لا ينسجم مع مفهوم العولمة ، العولمة تقول لك بالعامية إن هذا الخطاب" بله واشرب ميته".
إذن هذه إشارة واضحة أن العولمة توجهك نحو الممارسة المستقلة ضمن فهم حقيقي بعيد عن تهميش دور الشعوب في بناء المجتمعات ، سواء كان هذا الاستقلال اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي . لذلك العولمة تركز على الآليات المختلفة التي تستطيع الوقوف أمام أنظمة اجتماعية التي تريد تهميش دور الإنسان وتفرض عليه أنماط الحياة الاجتماعية .
فالعولمة من هذه الناحية تعني الانفتاح على المجتمع المدني ودفعه إلى النشاط والمشاركة الفعالة على جميع الأصعدة ، ولكنها اصطدمت مع الخطاب الديني الذي هزه هذا الانفتاح و دفعه للعمل المعاكس أكثر من التفكير العقلاني ، لماذا ؟ لأن تطبيق نظرية الاستقلال تلغي السلطة الوراثية أو ترسيخ ممالك التي استحوذت على السلطة بالحيل الشرعية ، فهل سيبقى لرجل الدين حاضر للتبرير والمباركة ؟ الجواب مؤكد لن يبقى ، لهذا نجد أن الخطاب الديني الذي يأخذ مسميات مختلفة لمواجهة العولمة وخطر العولمة يأخذه من أي جانب ؟ من جانب الدعوة إلى الإعتناق الدين الإسلامي فالمسألة ليست مسالة انفتاح الخطاب الديني على العولمة بل هو مواجهة الغزو الثقافي الغربي في نظره ، لأنه يرى أن الغرب غزا العالم وكان غزوهم أساسا لأسباب اقتصادية .
ولكن الدافع الرسالي كان ملحوظا والتفوق التقني زاد من احتمالية سيطرة الغرب على المجتمعات ، ويسترشدون بمقالة كتبها "جيفري أر بانت" أن الغرب يملك نظام مالي عالمي ، وأنه هو من يوفر البضائع الجاهزة لدول العالم ، وأنه يملك ترسانة عسكرية يستطيع التدخل العسكري وفي وقت قصير ، وأنه يمتلك أحدث المعاهد للأبحاث في العلوم والمعارف ، قائمة مطولة وضعها كاتب المقالة (1)
قل لي بهذه القائمة هل العولمة انحصرت في الاقتصاد أو أنها تعبر كونها ثقافة تساعد الناس على تطوير ثقافتهم والاستفادة من خبرات بعضهم البعض ؟ مؤكد تساعد الناس على الاستفادة من خبرات بعضهم البعض ، ولكن انتبه الغرب لن يسمح لك أن تتفوق عليه ، لأنك حتى تصل إلى مرحلة التنافس ، عليك أن تفهم أن العولمة لا تريد إيجاد نظام حكم أحادي الجانب بمعنى لا وجود لحاكم عليك ، أنت من يحكم نفسه ، لا يتبادر إلى أذهانكم أن نظرية العولمة تبحث في كيفية حكم العالم ، لا أبدا ، العولمة نوعا من النهضة تفتح المجال الواسع للتقدم الحقيقي على مستوى العالم مثلا لنأخذ مثال عن الدول في العالم لنقل إيران الإسلام كلنا يقرأ تقارير أخبارية عن تفوقها في مجلات معرفية عديدة منها المجال العسكري .
استفادت إيران من العولمة في المجال العسكري أم لا ؟ نعم استفادت ، أمريكا تصنع صاروخ مضاد للبوارج الحربية ، إيران أيضا تصنع صاروخ مضاد للبوارج الحربية ، أمريكا صعدت إلى الفضاء ، إيران أيضا صعدت إلى الفضاء.
نكمل بحثنا في الحلقة (17) إن شاء الله تعالى .... إلى اللقاء .
المصادر
(1) نقلا عن هنتنغتون ، صراع الحضارات ، ص 81