واقعا نهضة الحسين (ع) لا يمكن فهمها من زاوية واحدة ، لا بد من النظر إليها بكامل مقوماتها ومكوناتها وأهدافها ومنهجيتها في التعامل مع الغير، لأننا نتحدث عن العملية الإصلاحية الشاملة في الأمة كلها وفي جميع جوانبها عقائديا وأخلاقيا وسلوكيا وفكريا وثقافيا ودينيا.
الأنبياء أيضا جاؤوا للإصلاح ، فالمخاطب عندهم الإنسان بعقله وعواطفه وبدون هذين العاملين هل تستطيع أن تتحرك نحو الإصلاح أم لا تستطيع ؟ مؤكد لن تستطيع ، لماذا ؟ لأن بدون الإنسان العاقل لن تتحرك عجلة التطورفي الحياة.
سؤال : هل الشعائر بما تسمى بالشعائر الحسينية كافية لفهم نهضة الحسين (ع) أم لا ؟ الجواب : غير كافية ، لماذا ؟
أولا : لأن العاطفة لوحدها لا توصلك إلى الفهم الدقيق بدون العقل ،
ثانيا : هل هذه الشعائر لها إمضاء شرعي ، وأقصد به موافقتها للقرآن الكريم أم لا ؟ فإذا لم يكن لها إمضاء شرعي فليس لها قيمة معنوية ، أقمتها أم لم تقمها النتيجة واحدة.
لهذا فإن فهمنا للنهضة الحسينية هل يجب أن يكون حسب لغة عصرنا أم لغة عصره (ع) ، الجواب : لغة عصره (ع). لأن جيل القرن الأول الهجري الموافق للقرن 6 الميلادي الذي عاصره (ع) له مواصفات معينة ، ونما وعيه ضمن محيط تحولات وتجاذبات سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية ودينية واقتصادية ،
وذلك الجيل كان لابد له أن ينضج ، فمتى يجب أن يكون نضوجه ؟ يفترض له النضج في القرن 7 الميلادي ، وجيل القرن 7 الميلادي متى يجب له النضج ؟
الجواب : في القرن 8 الميلادي ، وهكذا إلى أن وصل النضج البشري إلى القرن 21 ومنه إلى عصر قائم آل محمد (ع) ، فدولته (ع) هل ستكون في هذا القرن 21 أو القرن 22 الميلادي ، المهم ستكون ضمن لغة العصر الذي سيظهر فيه المهدي (ع) لا بلغة عصر القرون الماضية.
والجيل في القرن 21 الميلادي أيضا وصل إلى نضج معين ونما وعيه ضمن محيط تجاذبات سياسية وفكرية واجتماعية وثقافية ودينية ، فإذا سألت علماء النفس ما هي مميزات جيل القرن 21 ؟ الجواب أن مميزات جيل هذا القرن أنه أوجد قادة ميدانيين في جميع مجالات الحياة، وهذا النهج أصبح مستديما لخدمة المجتمعات.
وإذا أردت في هذا القرن وهذه مميزاته تقديم مسلم بن عقيل (ع) أنموذجا قياديا له هويته الخاصة في قيادة المجتمعات ليقتدي به الناس ، فإن أول شيء ستقوم به هو نقل المعلومات عنه من المصادر التاريخية.
فأي المصادر التاريخية ستختارها (تاريخ الطبري) أو (المقتل لأبي مخنف) أو (حياة الإمام الحسين باقر شريف القرشي) ، أوالتراث الذي ينقل إلى الناس اليوم عبر القنوات الإعلامية المختلفة ؟ مؤكد ستختار ما ينقل عبر المنابر لأنها مدونة في كتب التاريخ.
أنه دخل الكوفة في 8 شوال عام 60 هجرية كسفير للحسين(ع) إلى أنصاره ، وجمع حوله 18 ألف مقاتل تفرقوا عنه بين ليلة وضحاها وبقي وحده لا يعرف سكك الكوفة حتى أوصله القدر إلى بيت إمرأة يقال لها طوعة أدخلته إلى بيتها وهي لا تعرفه حتى قتل صبيحة يوم 9 من ذي الحجة من نفس العام.
وإذا ساأك سائل هل هذه سيرة مسلم بن عقيل المدونة لديكم فقط ؟ ستجيب لا هناك مجموعة كتب منها (مسلم بن عقيل المثل الأعلى – حسين الشيخ هادي) فهو يذكر أن مسلم بن عقيل عاش مع عمه علي (ع) في الكوفة وخرج معه إلى صفين وكان على ميمنة الجيش.
ركز معي رجاء السائل سيقول لك لماذا تنقل الصورة الغيرمشرفة لمسلم بن عقيل ، وهناك من كتب عكس ما تقول أنه كان قائد كتيبة جيش عمه علي (ع) ، وعاش في الكوفة وأنت تقول إنه لا يعرف سكك الكوفة ، ماذا سيكون جوابك ؟
نلاحظ هنا المفارقة بين الثقافة الإنتقائية والثقافة الحقيقية ، الثقافة الإنتقائية أنك تصرأن مسلم بن عقيل رجل ضعيف عاجز ، وإصرارك على تقديمه إلى الناس بهذه الصورة وضعتك أمام المحك التاريخي. وهناك ثقافة حقيقية تنقل واقع حال سيرة مسلم بن عقيل ولكنك لا تذكرها.
سؤال : هل سيقبل أي إنسان عاقل في القرن 21 الميلادي (مسلم بن عقيل) كمثال يقتدي به في حياته ضمن الثقافة الإنتقائية ؟ لن يقبله بديهيا لن يقبله ، هذا على مستوى شخصية مسلم بن عقيل ، تعالوا معي للنظرعلى مستوى شخصية الحسين (ع).
نأخذ مثال (عبد الله الرضيع (ع)) أنموذجا لمعرفة شخصية الحسين (ع) حيث ينقل الحدث التاريخي للناس عبرالمنابر بأنواعها ، أنه جاء به الحسين (ع) ظهر العاشر من المحرم ووقف أمام الأعداء يطلب شربة ماء لإبنه بعد أن أشتد به العطش ، وكاد أن يفارق الحياة بسبب نفاذ الماء في المخيم قبل يوم العاشر بثلاثة أيام.
سؤال : هل هذا الموقف سيقبله إنسان يعيش في القرن 21 من الحسين (ع) وأنت تريد منه أن يجعل منه نبراسا وعلما وهاديا له ونموذجا يقتدي به في حياته ؟ الجواب : مؤكد لن يقبل ، لماذا ؟
أولا : أن موقفه (ع) هذا ينافي مقولته هيهات منا الذلة ، ثانيا : أي زعيم هذا الذي لا تخطيط لديه في مواجهة الثغرات الأمنية التي قد يستغلها العدو لصالحه خاصة الماء ، لأن العدو إذا عرف يستطيع أن يقتلهم بالعطش لا حاجة إلى إستعمال السيف. ثالثا : هو(ع) لن يقبل لنفسه أن يسجل التاريخ هذا الموقف المهين الذليل له.
وفعلا لم يقبل (ع) ذلك ، والدليل هذه قصة شهادة عبد الله الرضيع (ع) في كتب التاريخ جاء في (الفتوح لإبن الأعثم ج5 ص 115) وفي (الإحتجاج للطبرسي ج2 ص 300-301) وفي (مقتل الحسين (ع) للخوارزمي ج 2 ص 37) ،
(لما قتل جميع أصحاب الحسين وأهل بيته لم يبقى عنده إلا ابنه علي السجاد وعبد الله الرضيع ، فجاء الحسين (ع) عند باب الخيمة ليودع ابنه علي زين العابدين ، فقال ناولوني الطفل لأودعه فبينما هو يقبله ويقول الويل لهؤلاء القوم إذا كان جدك خصمهم يوم القيامة ، فأتاه سهم حرملة الأسدي فذبحه وهو في حجره فرمى بدمه نحو السماء).
قل لي إذا سائلك سائل ، لماذا نقلت لنا قصة غير واقعية وشوهت صورة وصي خاتم الرسل الذي أعتمده على رسالته ، ماذا سيكون جوابك ؟ أنا أعلم أن السؤال صعب نوعا ما والإجابة عليه ستكون إمتعاضية ، لأن فهم وعرض التاريخ ليس سهلا كما يظنه البعض بل هو خطير جدا.
والحوادث التاريخية تستند على الحقائق والتحليل الموضوعي لها ، وهذا التحليل يجب أن يكون له واقع ملموس ، لأن التهميش والضعف والعجز في التعبيرعن رمز تاريخي مهم مثل الحسين (ع) دليل على عدم النضج العقلي والمعرفي.
هناك من الكتاب والباحثين والخطباء إذا رفع رمز من رموز التاريخ فإنه يستخدم عقله الكبير، ولكن إذا أراد أن يحطم هذا الرمز فإنه يستخدم عقله الصغير. وهذا الإستخدام للعقل الصغيرالهدف منه أداء لدوره الوظيفي في عملية الصراع الذي نشأ منذ أمد بعيد ، فاختلطت المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية في صياغة هذا العقل ،
ولكن الحيادية في قراءة النهضة الحسينية وفهم التاريخ ونقله إلى الناس بحاجة إلى النظرة الموضوعية المجردة المعتدلة المتوازنة الصادقة حتى نستطيع تقديم شهداء كربلاء كنماذج يحتذى بها.
والحمد الله رب العالمين.
نلتقي في الحلقة (6) والأخيرة إن شاء الله...إلى اللقاء.