موكب الأنبياء والذي بدأ من نبي الله نوح وختم بخاتم المرسلين (ص) ، هذا الموكب سار بالبشرية إلى طريق الهداية والصلاح ، لم يختلف أي نبي عن الآخر وإن تعددت الأدوار لكن الهدف واحد ، وهذا الترابط ظاهر للأنام والذي مثل ترابطا أخلاقياً ضمن الرؤية الكونية من جهة والنهوض الحضاري بالشعوب من جهة أخرى.وإن كانت هناك جهود استشراقية لربط المسلمين بعروبتهم ، متجاهلين دور الإسلام الرئيسي في ظهور العرب وانتشار لغتهم خارج حدود الجزيرة العربية ، وهذه اللبنة التي قام عليها الصرح الحضاري الإسلامي لم ترتبط على أساس قومي أو عرقي بل بالرؤية التي حملها المسلمون ، والقيم والمبادئ التي التزموا بها ودافعوا عنها ، والتي انبثقت من رسالة الإسلام وتعاليم خاتم الرسل (ص).
وهذه القدرة حركت مشاعر الشعوب وأججت الهمم عندهم واستحضرت الأمم الولاء لرسالة الإسلام خلال فهم الثقافة العالمية الناهضة التي تجلت في المجتمع المدني الذي أسسه خاتم الرسل (ص) في المدينة ، والذي ضم قبائل عربية وديانات سماوية كنموذج مصغر من المجتمع المدني قام على احترام التعددية الفكرية ، ولا يقولن قائل إن المجتمع المدني كان انتقاليا وليس نهائيا والدليل أن المسلمين أخرجوا اليهود من المدينة فكيف نقول إن المجتمع المدني الذي أسسه خاتم الرسل (ص) كان منفتحا على الإنسان بوصفه إنسانا !!
نقول إن تلك الصراعات كان الهدف منها القضاء على معاقل الشرك فهذه صراعات كانت مرهونة بظروفها التاريخية الخاصة وبمواقف اليهود مع المشركين العرب ومن الدين الجديد، يكفي بالقول أن المسلمين أعادوا بناء الصرح الحضاري على مستوى الحضارة العالمية ضمت كل الأديان المسيحية واليهودية والهندوسية ، فشَكَلَ الاصلاح الثقافي الذي كان حجر زاوية في الفكر النبوي والذي بدأ منذ أن توافدت الوفود إلى المدينة بعد فتح مكة تعلن إسلامها للنبي الخاتم (ص) ، وكان وفد نصارى نجران إحدى هذه الوفود التي حلت بفناء داره (ص) ، ونجران بلدة عظيمة في مخلاف من مخاليف اليمن ، ولوفد نصارى نجران شأن كبير ومميز من بين الوفود ، إذ كانوا أهل علم وثراء واستقرار وحضارة ، جاؤوا ليعرفوا من خاتم الرسل (ص) عن عيسى النبي ماذا يقول فيه ؟ فعندما سمعوا جوابا لسؤالهم أن عيسى عند الله مثل آدم خلقه من دون أب ، إذا أراد الله شيئا قال له كن فيكون ، وهذا الجواب حقق نموذج التضامن العقدي بين الأديان ، بأن عيسى بن مريم جزء من المنظومة التي قامت على وحدة مبادئ الحق والعدل والتكافل والتسامح من أجل الحفاظ على كرامة وحقوق الشعوب ، ولكن نصارى نجران لم يقتنعوا بهذا الجواب فعرض عليهم النبي الخاتم (ص) المباهلة ، والمباهلة تعني الملاعنة.
وافق نصارى نجران على المباهلة ، لأن المسلمين يعتقدون أن ما هم عليه رسالة من الله بعثها من السماء إلى البشر و هي خاتمة الرسالات ، ونصارى نجران يعتقدون أن الرسالة التي هم عليها أيضا من الله ولكنهم لا يملكون إلا شذرات والميثاق الذي يشهد بعهد الله قد فُقد منهم ، وأنا لا أشك في أن نصارى نجران لو وافقوا على فحص المسألة لكفوا عن الاحتجاج في عيسى المسيح ، وأن الحقيقة في نصوص عيسى المسيح والحواريين هي نفسها التي تشهد أكثر مما يشهد العقل نفسه بأن كلام الله أبدي وعهده والدين مسطوران على نحو إلهي في قلب الإنسان أي في الفكر الإنساني.
وهكذا اختطلت الكلمات المقدسة عند نصارى نجران في واقعة المباهلة ، خاصة عندما سمعوا اسم الله في بيان حقيقة عيسى بن مريم قرأئه (ص) من الكتاب المقدس وهو القرآن الكريم ، وهم لا يريدون الدخول في مشاكل مع الله عزوجل ، لأن الكتب المقدسة لا ينشأ منها خرافات ، فعيسى فعلا ولد بدون أب وهذا سر لا يستطيع نصارى نجران تكذيبه ، من هنا عرفوا أن الحقيقة التي أراد خاتم الرسل (ص) تبليغها لهم بعد أن جاء للمباهلة وبمعيته ابنته السيدة الجليلة فاطمة وصهره علي وأبناءه الحسن والحسين ، أنه لا يسعى وراء إيجاد مبررات لنبوته ، ولكن كان من واجبه (ص) أن يزيل تلك الحجب عنهم ، أنه ليس هناك صوت أعلى من صوت كلام الله المقدس فهو صاحب السلطة المطلقة ، ولقد شاء ربك أن يكون وجود أهل بيته (ص) في واقعة المباهلة ضروريا لتهيئة عقيدة الناس فيهم على قدر فهمهم كيما تأتي طاعة الله بدورها عن رغبة صادقة ، وأن تلك الوجوه لو سألوا الله أن يزيل لهم جبلا لأزاله ، وهذه العلامة تؤكد على أحقية نبوته وإقناع الناس أن أهل بيته لهم جلالاً يعلو على البشر، وهذا العلو لا يمكن أن يقبل الناس به إلا بهذه الطريقة المكشوفة. إذن يتعين على كل فرد أن يهيئ الإيمان بقدر ما يتطلب من التقوى ، تاركاً (ص) للمسلمين حرية الحكم في واقعة المباهلة على مدى نفعها للعقيدة وضرورتها للدولة الإسلامية إذا أردنا أن يعيش الإسلام في سلام ووئام.
هذه الإشارة كانت كافية لنصارى نجران على الانسحاب من المباهلة والذي أدى إلى إبرام عقد الصلح معهم ، وكان الهدف من ورائه أنهم سينضون أفرادا وجماعات في نطاق نظام الدين الجديد ، لتختزل القيمة السياسية والثقافية للرابطة القبلية دون إلغائها ، لتتحول هذه الرابطة إلى تبني مبدأ التسامح الديني المبني على حرية الاعتقاد ، فالسيادة في المجتمع ليس لإرادة الأفراد والجماعات ولكن للشريعة والقانون.
وفي سياق واقعة المباهلة تم تمييز مستويين من التفاعل وهما رسالة الإسلام والواقع الإنساني واللذان يساويان التوجه الحضاري العالمي والتوجه في الإصلاح الثقافي والعقدي في آن واحد ، فالغاية القصوى ليست إرهاب الناس أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين ، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان ويحتفظ بالقدر المستطاع من حقه الطبيعي في الحياة والعمل دون إلحاق الضرر بالغير.