الخطاب الديني في عصر العولمة والحداثة (20)


 لقد وجدنا  فيما مضى إن العولمة لها تاثير قوي على حياتنا اليومية ، وهذه التأثيرات أصبحت لها أبعادً مختلفة من الحقوق الاجتماعية ، والفكرية ، والاقتصادية ، والثقافية ، كل ذلك من أجل بناء منظومة موحدة لتجتمع فيه البشرية ، تأسست على أركان ثلاثة ، تعرفنا على ركنين و هما الوطن والمواطن . ناتي إلى الركن الثالث وهو الإنسان قد يقول قائل أليس كلمة المواطن والإنسان يحملان نفس المعنى ؟ الجواب  كلا  ، أنت عندما تطرق باب الأخصائي في الإرشاد الأسري أو النفسي ، وتسأله عن معنى الإنسان ، سيقول  لك ، كلمة الإنسان مشتقة من الأنس أي أن الإنسان يأنس لبني جنسه ، أما كلمة المواطن فمشتقة من الوطنية ، أي حب الوطن ، فهو يحب وطنه ، لهذا سمي بالمواطن .

نحن قلنا في الحلقة الماضية أن المواطن في العولمة أن يعيش على كوكب الأرض دون قيد أو شرط ،  فهي تلغي كل مواصفات المواطنة التي تحددها الدول في دساتيرها .سؤال ما هي مواصفات الإنسان التي تريدها العولمة ؟ 

 الجواب : من العلوم التي ولدت وتطورت في الثقافة الإسلامية علم التصوف والعرفان  فبناء الإنسان في هذا العلم أو ذاك هو أن يعرف الإنسان وظائفه مع نفسه و مع العالم و مع الله عزوجل ، فهل المطلوب هنا بناء إنسان ديني أم بناء إنسان صوفي أم عرفاني  ؟ مؤكد بناء إنسان صوفي أو عرفاني ، الفقيه عندما يريد إلقاء الدروس في الفقه على الطلبة  أي إنسان يريد أن يبنيه  ؟ الجواب : الإنسان الديني يعرف أحكام الشرع .

إذن كل علم له نظرة تختلف عن الآخر في مواصفات الإنسان الذي يريد بنائه  ، العولمة أيضا  لها مواصفات لبناء هذا الإنسان  ما هي هذه المواصفات ؟ الجواب : العولمة  لا تريد إنساناً إلهياً ، ولا تريد إنساناً دينياً ، ولا تريد إنسانا عقائدياً ،  وإنما تريد إنساناً مادياً  ، ليس المادي بمعنى أنه لا يؤمن بالله عز وجل ، لا أبدا  ، لا مدخليه في إيمان الإنسان  بالله عزوجل في فكر العولمة ، ولكن لا مانع من أن تجعل هذا الإيمان  في مسجدك ، أو في بيتك .

 العلمانية أيضا تنحو إلى نفس الاتجاه،  الفرق بين العلمانية و العولمة  الآخيرة لا تتدخل في من سيحكم ، لهذا العولمة توسعت قليلا عن باقي النظريات الاجتماعية في صياغة العلاقات الاجتماعية ، فهي تجعل العلاقات الاجتماعية بعيدة عما يعتقده الإنسان ، وهكذا تتوطد العلاقات بين البشر بالألفة والمودة .  هل سمعتم  بجمعية  الألفة والمودة أم لا ؟  تعالوا معي لنتعرف عليها . ما هي هذه الجمعية ؟  الجواب  :- هي جمعية تتشكل حول هدف مشترك أو مصلحة مشتركة ، ينتمى إليها الأفراد إما بشكل رسمي أو غير رسمي . ما هي أهداف هذه الجمعية ؟ 

أولا :- ايجاد التقارب الاجتماعي ،  مثلا  أنتم في الأسرة الواحدة ما هي الميول المهنية بالاتجاهات والرغبات لدى الفرد ، بحيث يعتبر الفرد هذا العمل هو ما سيحقق له طموحاته و أهدافه  ؟  قد يقول قائل أنا أميل إلى قراءة  الكتب الفلسفية ، والآخر يقول أنا أميل إلى العمل التطوعي في مساعدة المرضى  ، و الآخر سيقول أنا أميل إلى مساعدة المعاقين في إنهاء معاملاتهم الرسمية  ، جيد ،  سنسأل  هذا الذي يميل إلى قراءة الكتب الفلسفية ، كم شخصاً في عائلتك أو مجتمعك تتطابق ميولهم معك  ؟ سيجيب 5 أشخاص ، هذه الجمعية ستقول له اجتمعوا أنتم الخمسة وناقشوا ما قرأتم في الفلسفة ، طيب  اجتمعنا وناقشنا ما قراناه  ، ثم ماذا ، هنا نأتي إلى الهدف الثاني وهو:-  إيجاد الدعم القانوني لهذه الجمعية ، بمعنى إعطاء شرعية قانونية لهؤلاء الخمسة في إنشاء منظومة قانونية  باسم جمعية قراء الفلسفة 

 طيب أخذت  الجمعية الدعم القانوني ، ثم ماذا  ؟ نأتي إلي الهدف الثالث وهو:-  إيجاد من  يشترك معهم في هندسة إدارة هذه الجمعية ، بالنتيجة تكون للجمعية  تسلسل هرمي في إدارة مصالح أعضائها . مثال آخر  عندما تسمع أن فلاناً او فلانة هو سفير أو سفيرة للنوايا الحسنة،  هذه السفارة منبثقة من النادي أعضائه ميولهم توطيد العلاقات مع المجتمعات البشرية خارج الحدود الجغرافية  ، وهناك جمعية ضد الإجهاض ، و هناك جمعية حقوق الحيوان ، و هناك جمعية المثليين  ،و هناك جمعية الصداقة مع هذه المنظمة أو تلك ، قائمة مطولة من الجمعيات .   وكلها تعمل تحت مظلة جمعية الألفة والمودة  التي انبثقت من منظمة هياس ضمن منهجية تقديم المساعدات الإنسانية ولكن هدفها تقديم خدمات إنسانية لتوطين اليهود .

تعمل هياس حالياً على إعادة توطين معظم اللاجئين المستضعفين من جميع الأديان والأعراق في جميع أنحاء العالم. لكنَّ هياس، بصفتها منظمة، لا تدعي أنها تنقل عقيدتها للغير من خلال شبكتها الإنسانية ، ولا تنشر عقيدتها على المستفيدين و لا على الشركاء. و تقوم بتدريب كوادر لا هدف لهم سوى الالتزام بالمهنية في العمل الإنساني ، و يؤكدون أنّ العقيدة ليست ضرورة للتضامن .(1) فأسقطت بذلك ورقة الإسلام السياسي.

هذه الجمعيات أو النوادي  تصنف بأنها منظمات داخلية ، وهناك نوادي تصنف بأنها منظمات خارجية  مثل توست ماستر والروتاري . إذن جمعية الألفة و المودة  أوجدت نوادي اجتماعية متعددة المهارات و من مختلف شرائح المجتمع ، فأصبح كل فرد يمارس دوره ضمن قدراته المهنية ، دون تدخل من  أحد .

 فالإنسان هنا لا يهتم لا بثقافة أحد ، و لا بديانة أحد ، و لا بعقيدة أحد، سوى اهتمامه بالمهنة التي يمارسها ،  الكل ذاب في بوتقة هذه الجمعية ، فتوسعت دوائرها عالميا ، بحيث لا يستيطع أحد ممارسة أي ضغط على هذا  الإنسان الذي هو  تحت حماية هذه الجمعية التي لا تغيب عنها الشمس ، فهم مطلعون على كل  الخفايا وأسرار المجتمع  (2)

فالإنسان تمركز قراره في واحة السلم وجنة الاستهلاك والترفيه عن النفس ، فكان حلم الانتقام من الماضي قد تحقق له ، وبتالي أصبحت العولمة ملاذا يعوض فيه الإنسان أحلامه ويهرب من حاضر مقيت وفكر متزمت .
نكمل بحثنا في الحلقة (21) إن شاء الله تعالى .... إلى اللقاء.

المصادر :

(1) جذور يهودية للمساعدات الإنسانية أضغط على هذا الرابط >جذور يهودية للمساعدات الإنسانية
(2) يمكنكم الإطلاع على تفاصيل أكثر عن جمعية الألفة والمودة في هذا الرابط > حمعية الألفة والمودة


محتويات مشابهة
تابعنا على
الوقت الآن
الخميس 2025/1/9 توقيت مسقط
ابقى على تواصل
تصميم وتطوير