تحدثنا فيما مضى عن الفقر، نكمل بحثنا فيما يخص محو الأمية ، ثم نناقش كلا الموضوعين . آخر الإحصائيات التي نشرتها منظمة اليونسكو (1) أوضحت ترتيب الدول العربية حسب نسبة الأمية من مجموع عدد السكان مثلا :- العراق 20% ، عمان 5% ، البحرين 4% ، ولكن بتاريخ 31-8-2018م خطب السيد احمد الصافي وكيل السيد السيستاني ، خطبة في الصحن الحسيني تستحق الوقوف والتأمل ،
" هنالك حقائق مؤلمة عن أشخاص من صنف العاجزين عن كتابة أسمائهم وأصحاب العثرات الإملائية بأميتهم الأبجدية ، وكذلك حقائق مؤلمة أخرى عن اشخاص عجزوا عن الإدراك والوعي فخانهم التعبير الكلامي والعملي المبني على التصورات والظنون وهم ممن جعلتهم الظروف في فئة أصحاب الأمية الحضارية " (2).
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ظهرت دراسة (3) حول الشيعة في العراق " أجمعت النخب الشيعية على عدم وجود رمز سياسي في الوقت الراهن يمكن أن يكون جامعا للعراقيين " ثم أضافت الدراسة " ينافس المثقف الشيعي رجال الدين على جمهورهم فهو يقر في أعماقه بالخلاف الجذري مع رجال الدين "
هذه التجارب الإنسانية سواء في إنفاق الخمس وما رافقه من الفساد المالي ، أو كما قيل بأمية الحرف والفكر ، وكل هذا ضمن العقيدة الشيعية ، بإعتبارها كشفا واضحا عن الحقائق المستورة . هذه التجارب بلا شك سيفكر فيه المرء أنه كيف للدين أن يعزل فئة دون فئة من الإستفادة من نظام مالي ، وهذا ليس حدسا بل هي الفطرة الصحيحة في الوعي الإنساني.
يقول أميس (4) " عندما يريد المرء أن يربط الخبرة الدينية بعمل عضوٍ أو عنصرٍ في الحياة الروحية ، فإنه يجد لذلك دوافع كبيرة من خلال الوعي الباطن. وفي هذا المجال ، يجد اؤلئك المدافعون عن تفرد التجربة الدينية ملاذا يمكنهم اللجؤ إليه ". من هنا نفهم أن الدين ينطلق من تعميم الحقائق النهائية ، والتي يجري إداركها في تجارب ذاتية منفردة أولا ، وهذه الحقائق تتطور إلى نظام متسق تستخدم في تفسير الحياة وفهمها ، وتبقى الحقائق أو تسقط مثل الحقائق الأخرى بقدر ما تحقق نجاحا في التفسير.
وهنا يصعب على الباحثين في الوقوف على درجة وعي الإنسان ،فيلتجئون إلى جمع المعلومات ليصلوا إلى أدق التفاصيل والإطلاع على الخبايا والأسرار، حيث تشير الدارسات أن اللغة والكلام لا يمثل سوى 7 % من طرق التواصل مع الناس ، الباقي يذهب إلى الحركات والإيماءات التي تترجم في عقول المتلقين دون وعي منهم ، فلو قال الخطيب " إن الفقيه أو المرجع الديني ، يقضى العمر كله في البحث والتقصى ، حتى يستطيع استنباط حكما شرعيا واحدا ، فكيف نحن لا نصدقه على وجوب الخمس في عصر الغيبة " كلامه صحيح لا غبار عليه ، ولكن انتبه نحن عرفنا أن الخطيب لا يمثل سلطة النص فهو لا يلامس الحقيقة التفسيرية الواقعية لفتوى الفقيه ، سأقرب لكم المعنى ، نحن عندما نقرأ القرآن الكريم ، وبعد الإنتهاء من قرأئته نقول "صدق الله العلي العظيم" لماذا نقول ذلك ؟
الجواب :- لأنه النص المقدس لامس الواقع الحقيقي ، لأننا وجدنا ما قاله رب العزة مطابق للواقع الحقيقي ، قال تعالى "ولما رأئ المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله " (5) ،إذن الواقع والنص المقدس لا ينفكان ، فكل واحد منهما يكمل الثاني ، الأمور واضحة الآن ، ممتاز .
إذن لماذا فتوى الفقيه في الخمس لا يلامس الواقع ؟ لأنه هناك منطوق المعصوم ويسمى بأصل النص ، وهناك استنباط الفقيه للحكم من منطوق المعصوم ويسمى فتوى الفقيه . ما هو أصل النص ؟ أصل النص ، أن الخمس حلال للشيعتنا حتى ظهور أمرنا ، هذا الأصل وصل عندهم وأقصد به الفقهاء أم لم يصل ؟ نعم وصل عندهم ، فأصبح حكم الخمس حكما ولائيا موقوف النفاذ ، حتى وقت ظهور أمر القائم (ع) ولا استمرارية للإباحة فيه .
أنا سأشير إلى هذه الرواية المعتبرة (6) وهناك عشرات الروايات لا يتسع المجال لذكرها "قال أبو عبد الله: أتدري من أين دخل على الناس الزنا؟ فقلت: لا أدري, فقال: من قبل خمسنا أهل البيت إلا لشيعتنا الأطيبين فإنه محللٌ لهم ولميلادهم " إذن كل الخمس محلل للشيعة .هذا أولا ، ثانيا:- منطوق فتوى الفقيه على وجوب الخمس لا يلامس أصل النص في منطوق المعصوم وهذا الذي أدى إلى سؤ استغلال السلطة ، وسؤ التوزيع فضلا عن الفساد ، نحن ذكرنا بعض الدراسات عن الخمس والفساد المالي في الحلقة الماضية ، سأضيف سطرا جديدا على سؤ استغلال السلطة .
وفقا لدراسة اجرتها وزراة التخطيط العراقية بالتعاون مع البنك الدولي فإن 32 % من سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر (7) وبلغت نسبة الفقر (8) في النجف 12.5% وفي كربلاء 12 % ، هاتين المدينتين أغلب سكانها من الشيعة الإمامية والحاضنة للمرجعيات الدينية الشيعية . بالنتيجة نص المعصوم وفتوى الفقيه على طرفي النقيض، المعصوم حلل الخمس لشيعته ، والفقيه وبإسم المعصوم يأخذ من الشيعة الخمس، وهذا ما أكده أحد الفقهاء (9) من أعلام الشيعة
" قد بدأ به حسب ما في روايتها النبي الأعظم (ص) ثم أمير المؤمنين كما في رواية تفسير العسكري واستمر عليه الأئمة إلى أن أنتهى التحليل إلى الحجة بن الحسن كما في التوقيع ، وفي بعض منها التحليل عن أمير المؤمنين ، وهكذا عن فاطمة باستدعاء ثم وصل دور التحليل إلى الأئمة بعد أمير المؤمنين كما في جملة منها حتى عبروا بقولهم أحللنا بصيغة الجمع الدالة على وحدة الموضوع والحكم من جميع الأئمة المعصومين على نسق واحد فيعلم من ذلك كله أن موضوع هذا التحليل هو هذا الخمس".
إذن ما تم رصده من معطيات وفرتها الوقائع والحوادث ، استطعنا تحديد الموانع والعوائق في القضاء على الفقر بسبب عدم المساواة في توزيع الخمس، الأمر الذي لم يستطع جابي الخمس أو وكيل المرجع الديني الحديث عن الفساد المالي في أروقة المؤسسات الدينية الشيعية ، وبالتالي استطعنا فهم الحالة التي تكون الوعي .
وهنا نطرح أسئلة حول هذه الحالة ، هل هذه الحالة خرافية أو ضبابيه أو مصطنعة يصعب تنفيذها، أم هي واقع يمكن أن يصير ؟ ثم هذه الحالة فعل عقلي معرفي أم قصد إرادي أم إنفعال عضوي تجاه بعض الأحكام الفتوائية .
بينما في المقابل وجدنا حالة الواعون بنموذجيتهم الراقية ، والذين استطاعو تأسيس منهجية لا يقل عن باق ميادين العلم دقة وعلمية، فأنجزوا بحوثهم الفقهية تلامس الواقع ، هذه الحالة في مواجهة تلك الأسئلة التي توشك أن تتحول إلى الإجابة ، يكونان طرفي علاقة سببية ، فأيهما ياترى السببب وأيهما النتيجة ؟
نكمل بحثنا في الحلقة (9) إن شاء الله تعالى ...... إلى اللقاء.
المصادر:
(1)موقع المرسال الإلكتروني ، 22-2-2021م
(2) مقالات حسين فرحان ، أمية حرف والفكر ،20-3-2020م
(3) مؤسسة بيرتديش ايبرت – الدولة والأمة في مخيال الانتليجنسيا الشيعية في العراق – دكتور على طه الحمود – عمان – الأردن – 2017م – ص 27-30
(4) سيكلوجية تجربة الأديان ، إي أس أميس ، ص 291
(5) سورة الأحزاب – آية 22
(6) الوسائل – ص 544
(7) موقع العين الإخباريه – الدينار العراقي يعمق آلام الفقراء ويشمل التضخم – خطة طارئة للإصلاح – 19-4-2021م
(8) موقع الكتروني لقناة الحرة الفضائية ، 14-1-2021م
(9) فقه الشيعة – السيد مهدي الخلخالي – ج2 ص -728-729